مجازر إبادة المسيحيين في بلاد ما بين النهرين – الدم المسفوك – الجزء الرابع

بقلم د.جميل حنا
مجازر إبادة المسيحيين في بلاد ما بين النهرين – الدم المسفوك – الجزء الرابع

02 /11 / 2013
http://nala4u.com

نتابع في هذا الجزء عرض بعض الوقائع عن مجريات المجزرة الكبرى التي ارتكبت ضد المسيحيين بشكل عام في السلطنة العثمانية بين أعوام 1914-1918 من خلال شاهد عيان عاصر تلك الحقبة الدموية المظلمة, ألا وهو المرحوم عبد المسيح قره باشي مؤلف كتاب ” الدم المسفوك”.والذي يأتي على تفاصيل الأحداث الأليمة التي شاهدها بأم عينه والتي سمع عنها في زمن حدوث تلك المجزرة.قبل ثمانية وتسعين عاما فقدت الأمة الآشورية أكثر من نصف مليون شهيد من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة الكلدانية وكنيسة المشرق وكنيسة السريان الكاثوليك والبروتستانت.وكما خسرالشعب الأرمني في هذه المجازرالرهيبة مليون ونصف من الشهداء على يد السلطات العثمانية وأستشهد مئات الآلاف من اليونان وقتل كل هؤلاء بسبب عقيدتهم الدينية وإنتمائهم القومي.
أنتهت مرحلة الإبادة العرقية الجماعية الهمجية مع إنتهاء الحرب العالمية الأولى,إلا أن المأساة لم تنتهي بسبب الطبيعة البربرية القاسية والعنف المستخدم وإتساع نطاقه ليشمل الجميع صغارا وكبارا رجالاً ونساءً.صدمة نفسية كبيرة ما زالت تعيش في نفوسنا ليس فقط لهول الفاجعة الكبرى وإنما استمرار وحدوث مجازرالإبادة العرقية بأشكال عديدة حتى يومنا هذا ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مذبحة سيميل في العراق عام 1933.إن العقائد الدينية والقومية الشوفينية والأفكارالعنصرية وروح الغطرسة والبغضاء التي كانت وراء إرتكاب تلك المجازرالبشعة ما زالت متعشعشة في النفوس وفي سياسة السلطات الحاكمة والأحزاب القومية والدينية العنصرية وفي داخل المجموعات المتطرفة والإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.إن سياسة إنتهاك حقوق الإنسان وإرتكاب المجازر من قبل السلطات الرسمية ضد مجموعات معينة من أبناء المجتمع لا تنال الإهتمام اللازم من قبل القوى العالمية صاحبة القرارات المؤثرة لردع أو الضغط ومعاقبة من يرتكب جرائم ا لإبادة بحسب المواثيق والمعاهدات الدولية وتقديم الجنات إلى المحاكم الدولية لكي تأخذ العدالة مجراها الطبيعي.
إذكاء روح التعصب الديني والمذهبي والقومي وتكريس سياسة التمييز العنصري مازالت تستخدم كأدوات تفرض على المجتمع للهيمنة وإرتكاب أبشع الجرائم بحق الإنسانية.وما يحز في نفوسنا هو عدم محاسبة المخططين والمنفذين والمحرضين والداعمين والرافضين لفكرة محاسبة من أرتكب مجازر الإبادة بحق الشعوب والاعتراف بما اقترفوه من جرائم ضد الإنسانية.تلك الجرائم التي نفذت بحق إناس أبرياء لم يرتكبوا أي ذنب سوى أنهم ينتمون إلى دين وإثنية غير دين وإثنية الأكثرية.وبكل أسف ما زال هذا الفكر الإجرامي ساريا في أوساط مختلفة في مجتمعات الشرق الأوسطية وبلدانها.ويعتقد هؤلاء أن هذا جزاء كل من لا يخضع لشرائعهم ومعتقداتهم وسلطانهم وسيساتهم العنصرية.
في هذا الجزء سنتطرق إلى دور اليزيديين في حماية المسيحيين ومواقفهم الشجاعة والإنسانية وتضحياتهم الجسيمة التي ستبقى موضع تقديرنا وأحترامنا لذكرى كل الذين ساهموا بأنقاذ أرواح الأبرياء من الناس الفارين من أمام سيف المجرمين.وقبل الدخول إلى صلب هذه الفقرة نقدم بأختصار شديد جدا بعض الجمل عن هذه الطائفة الكريمة.
يقول أمير الطائفة اليزيدية أنور معاوية الأموي “ان تاريخ اليزيدية يكتنفه الكثير من الغموض بسبب كونهم طائفة صوفية منغلقة على ذاتها”تاريخ وحقوق اليزيدية- توضيح تاريخ اليزيدية 20.12.2006″موقع” أنا حرة” وكما يذكر في نفس المقال وفي العديد من المواقع المختلفة والتصاريح حيث يقول عن الشعب اليزيدي(رغم ديمومة تداول اللغة الكردية مع العربية في نواحي اليزيدية فان هناك شعوراً متنامياً لديهم باصولهم السريانية الرافدية. في عام 1919 اشتركوا مع الآشوريين بوفد موحد بقيادة الجنرال آغا بطرس في مؤتمر السلام في باريس للمطالبة بحقوقهم. لقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط في /24 – 2 – 1993/ برقية من شيخ اليزيدية الأمير معاوية يقول فيها: “انه ليس لمسعود البرزاني ولا جلال الطلباني – القادة الاكراد – الحق بالادعاء بانهما يمثلان اليزيديين والآشوريين”. ثم نشرت مجلة “حويودو- الوحدة” السريانية (عدد 43-1994) بياناٌ للأمير معاوية يتحدث فيه عن: “نبتة أجدادنا أيام الامبراطورية الآشورية….. اننا فهمنا تاريخنا باننا والآشوريين من أصل واحد……”
ويضيف في موقع أخر مجلة فرقونو العدد 7 لعام 1998 ” اليزيديون يعبدون الله وليس الشيطان” ردا على إتهامات الخصوم ونعتهم بعبدة الشيطان.وفي كتابه ” اليزيدية , التاريخ العقيدة المجتمع” الصادر عام2002 في السويد يتحدث الؤلف بشكل مفصل عن التاريخ والعادات والإنتماء الديني والقومي للشعب اليزيدي… ان اليزيدية بحاجة الى الاعتراف بهم كفئة دينية عراقية اصيلة تجتمع في داخلها كل تنوعات الأمة العراقية لغويا ودينيا وتاريخيا، فهم لغويا يجمعون التأثير السرياني والعربي والكردي ، ودينيا يجمعون الميراث الديني العراقي بكل تنوعاته ومراحله: عبادة الكواكب العراقية ثم المسيحية والمانوية البابلية ثم التصوف الاسلامي. انها ديانة عراقية رافدينية اصيلة بكل ما للكلمة من معنى. وبهذا الصدد يقدم الباحث العراقي سليم مطر وصفا رائعا في كتابه “الذات الجريحة”ص.465- 466
(يمكن إعتبار اليزيدية اشبه بقصر تاريخي مظهره اسلامي مزين بنقوش عربية وعبارات كردية. لكن لو ازلنا هذه الأصباغ الخارجية عن الجدار لإكتشفنا تحتها طبقة من نقوش مسيحية بأيقونات ملونة وصلبان منحوتة. ولو تعمقنا اكثر بالحفريات لاكتشفنا طبقة ثالثة من جداريات آشورية ورسومات آلهة النهرين وكتابات مسمارية. ولو تعمقنا في الحفريات سنصل الى اعماق تاريخ المنطقة وجذورها البدائية المخفية. ان اليزيدية من بين الكل هي اقل الطوائف التي نجحت بإخفاء طبقاتها التاريخية، بحيث تبدو وكأنها موزاييك رائع للتراث الديني والأقوامي لبلاد النهرين)
عدد اليزيدية ربما يبلغ الآن اكثر من 300 ألف في العراق، 85% منهم يقطنون في جبل “سنجار” غرب الموصل، والباقون في قريتي “الشيخان” و”باعذرى” شرق الموصل. بعض اليزيدية موجودون أيضاٌ في سوريا وفي تركيا وفي أرمينيا.
جبل سنجار يتحمل الضيقات والحصار من أجل المسيحيين” لما رأى المسيحيون في ماردين وضواحيها, مهما أبدوا من طاعة وخضوع وعبودية للحكومة العثمانية ولشعبها,يستحيل عليهم ان يرضوا طغيانهم وظلم شعبها…ولذا قرر البعض الفرار إلى جبل سنجار. وعندما كانوا يبلغون المكان.كان اليزيديون يستقبلونهم بكل محبة وفرح. وخاصة رئيسهم(حمو شرو) المشهور بالإحسان والرحمة والمحبة الإنسانية. هذا الرجل كان يستقبلهم بكل مودة وعطف. ويخصص لهم مساكن للإقامة والمعيشة ويكمل حاجاتهم الضرورية…وكان يعزيهم ويتألم معهم للأخبار المؤلمة التي كانت تسمع في تلك الأيام.
وقد نال محبة واحتراماً واكراماً عظيماً لدى المسيحيين في كل مكان,وذاعت له شهرة عظيمة في العمل الإنساني…كانت قوافل السوقيات تقاد إلى مختلف المناطق وخاصة البراري والأماكن المقفورة والصحارى لكي يموتوا جوعا وعطشا ممن لم يقتلو ويبادوا على يد الفيالق الحميدية وبعض العشائر الكردية المتحافة مع السلطنة العثمانية لقتل المسيحيين…ومن هذه السوقيات التي وصلت إلى الشدادة ودير الزو كان قسما منهم من أستطاع الذهاب إلى جبل سنجار. ..أما اليزيديون الذين كانوا يسمعون هذه الأخبار فكانوا يقصدون أماكن هؤلاء المشردين فيذهبون ويخطفون الأطفال ومن يتمكن منهم من المجيء معهم, ويأتون بهم إلى سنجار ويسلمونهم إلى المسيحيين ليعتنوا بهم…ولما ضرب الجوع والوباء والغلاء سنجار وضواحيها. قصد المسيحيون عشائر طي العربيةغير أبهين بالموت ومتحدين الأخطار..استقبلهم هؤلاء القوم ذوو الشهامة ومنحوهم كميات كبيرة من الشعير والذرة والدهن وسائر حاجات القوت والطعام واستقرت حياتهم… فلما سمع العثمانيون ان كثيرين من المسيحيين لجأوا إلى سنجار ونجوا من الموت. عادت الحكومة وأصدرت أمراًبقتل من نجا من المسيحيين وقصد جبل سنجار, ودفعت جنودها إلى جبل سنجار مدججين بأنواع الأسلحة ليذهبوا ويحتلوا سنجار والجبل ويقتلوا كل المسيحيين هناك…وصلت القوات العثمانية وحلت في جبل سنجار, وفرضوا حصارا قويا على المنطقة وأرسل قائد العسكر المدعو( محيي الدين بك) ورئيس المخابرات والتفتيش في جبل سنجار كتابا إلى الزعيم حمو شرو….وهذا نص الكتاب: ” أرسل إلينا كل المسيحيين الذين هربوا ولجأوا إليك مع كل أنواع الأسلحة التي بحوزتك, وإذا لم تخضع للأمر ستحل بك مصائب وآلام مريرة لا تتصورها. وسوف نهدم بيتك وبيوت جميع أهللك وذويك وعشيرتك”… ولما قرأ حمو شرو هذه الرسالة غضب جداً وقال: ” كيف يسمح لي ضميري لأسلم هؤلاء المسيحيين الذين لجأوا إلي وأنا أعطيتهم عهداً وأقسمت بشرفي وديني ألا أغشهم( لاوفيستا) هي يمين معظمة لدى اليزيديين.لن أسلم ,احدأً منهم ما دام في عينيَ ماء,أما إذا قتلت أنا وأولادي فبإمكان الأعداء ان يفعلوا بهم ما يشاءون…ويوم سبت النور ليلة عيد القيامة, تقدمت القوات الحكومية نحو الجبل. وبدأ الهجوم على الجبل إلا أن الزعيم حمو شرو كان أمينا وقاتل ببسالة لصد القوات العثمانية , ولكن نوعية الأسلحة المستخدمة والقوات العسكرية كانت كبيرة جدا, وأستطاعت أحتلال المنطقة وفرضت الهيمنة عليها من قبل العسكر.
الشعب اليزيدي تعرض إلى مجازرالإبادة الجماعية في عهد السلطنة العثمانية حاله حال المسيحيين وربما أكثر. وهنا نذكر بعض المجازر التي أرتكبت بحق الشعبين السرياني الآشوري والمسيحيين بشكل عام واليزيديين.وهذه المذابح أرتكبت من قبل طغاة سفاحين أشتهروا بإعمالهم الإجرامية البربرية التي يعجز اللسان عن وصف همجيتهم التي فاقت بكثير وحشية الحيوانات الكاسرة في الأدغال والبراري.ونذكرمن هذه المجازر المشتركة التي حلت بكلا الشعبين من قبل الزعيم الكردي محمد باشا الراوندوزي الملقب محليا باسم مير كور(أي الأمير الأعور) ما بين أعوام 1831-1836.وكذلك مذابح الزعيم الكردي السفاح بدرخان بين أعوام 1843-1846. وأيضا مجازر الإبادة الكبرى بين أعوام 1914-1918 التي أرتكبت من قبل السلطنة العثمانية والكثيرمن العشائرالكردية المتحالفة معها.
التاريخ فيه صفحات مظلمة صنعه رجال وقبائل متمرسة في الإجرام, وللتاريخ صفحات مشرقة صنعها رجال ونساء عظماء وشعوب بما قدموه من أعمال إنسانية وتضحية وشهامة وصدق وأخلاص وأمان ووفاء للعهد وضمير إنساني حي.نحن بأمس الحاجة اليوم إلى هذه القيم الإنسانية في وقتنا الحاضرحيث أصبحت الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية لا تخدش مشاعرالكثيرمن البشرفي عالم متقدم حضاريا وتكنولوجيا ولكنه متخلف أخلاقيا وفاقد للضمير الإنساني.

د.جميل حنا
2013-11-02

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.