الذات الممسوخة – إشكالية اعتماد النظم والشرائع المسيحية في كنيسة المشرق / الجزء الثاني

بقلم سامي هاويل
الموضوع;
 الذات الممسوخةإشكالية اعتماد النظم والشرائع المسيحية في كنيسة المشرق / الجزء الثاني

21 / 09 / 2023
https://nala4u.com

تعتبر الأخلاق الأساس الذي يتحكم بسلوك الفرد، وعليها يرتكز العقل الجمعي لتركيبة المجتمع، وهي مترابطة بشكل مطلق بمشاعر الإنسان التي تعتبر جزء أساسي من بنيته وكيانه. ولكي نكون اكثر دقة علينا التمييز بين السلوك السيء المبني على عدم الفهم والإدراك، وبين السلوك السيء الذي يتم معاودة تكراره رغم النتائج السلبية أو الكارثية الناجمة عنه، ففي الحالة الأولى يعتبر (سلوك غير واعِ)، أما في الحالة الثانية فإنه يعتبر (سلوك غير أخلاقي).

رغم تأثير فضائل الشجاعة والحكمة والعدالة في الفلسفة الأفلاطونية عليها ولكن!، تبقى (الموعظة على الجبل) وحزمة من النظم والشرائع في الكتاب المقدس القاعدة الأساسية لمنظومة الأخلاق المسيحية، فإلى جانب البِر والمحبة والتسامح والتواضع الشهامة، لا يمكننا تجاهل ركيزة “الحق” ومكانتها في هيكلية منظومتها الأخلاقية، الوجه الآخر للحق الذي جسده السيد المسيح بجلاء في قصة الزانية، ولم يتنازل عنه امام هيرودس عندما كان يدينه، وختمه على خشبة الصلب.

لقد تباين فهم المسيحية وتركيبة منظومتها الأخلاقية بين المجاميع المسيحية منذ بداية انتشارها، وكان مرهوناً بالكيفية التي تناولتها ومارستها النخب لدى مختلف الشعوب، ما يلفت الأنتباه هو تمكن نخب كنسية مختلفة من خلق توافق بين المسيحية وتراث شعوبها إلا احبار كنيسة المشرق، كما أسلفنا الذكر في الجزء السابق، فقد مضوا بالأتجاه المعاكس رغم توافر الفرص امامهم بشكل اوسع، مما وضعهم في مأزق سنأتي لذكره بعد قليل.

عند دخول الرومان الى المسيحية جسدت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مفهومي الحق والرحمة في تعاليم المسيح عبر إنشاء فرق الفرسان المبنية على مبدأ الرجولة والشهامة، لحماية حقوق الضعفاء والعزل، وبالتوازي مع ذلك نرى كيف تحولت آلهتهم القديمة (بريجيت) الى قديسة في كنيستهم، وعندما تم اعلان المسيحية ديانة رسمية في الأمبراطورية الرومانية، شاعت فكرة العزوف عن القتال بين اوساط المسيحيين الرومان، ونبذوا الأنخراط في القوات المسلحة، ولكن السلطة لم تتهاون في ردع تلك الظاهرة التي كانت تهدد أمنها، فشهدت الأمبراطورية في القرون المسيحية الأولى حملة إعدامات طالت الكثير ممن رفضوا القتال والأنخراط في الجيش، الى الجانب الآخر ظهرت الحملات الصليبية التي أضفوا عليها رمز الشهامة الوثيق الأرتباط بالأخلاق المسيحية، فكان هذا الإجراء خطوة ناجحة في خلق توافق بين مسيحيتهم وكيانهم السلطوي. ولعبت هذه المنهجية الى حد كبير دوراً مؤثراً في استمرارية سلطتهم ولحمتهم الأجتماعية، وفي نفس الوقت رفدت مؤسستهم الكنسية بمزيد من القَوَة والأزدهار والأستمرارية حتى باتت اليوم أمبراطورية كبيرة لها مكانتها واعتبارها في المجتمع الدولي رغم انهيار الأمبراطورية الرومانية منذ زمن بعيد.

في معرض حديثنا عن بعض القيم المسيحية “كالتسامح والتواضع”، تقودنا المعطيات لنكتشف بانها في المنظومة الأخلاقية لكنيسة المشرق اصبحت في الكثير من الأحيان مرادفة للخنوع والتنازل والتنصل من مسؤولية الدفاع عن الحق، بحيث لا يمكن للفرد البسيط التمييز بينها، وهذه الظاهرة بحد ذاتها تندرج ضمن عملية قلب المفاهيم وتشويهها، فعندما يكون “التواضع والتسامح” على حساب معاناة وحقوق شعب بأكمله يتغير الجوهر كلياً. في الجانب الآخر برزت ظاهرة تكفير وتوثين ثقافة وتراث الشعب الآشوري وإرثه، ولا زال هناك من يحاول ترسيخها حاضراً ايضاً. هذه الممارسات والأجتهادات لعبت دوراً بارزاً في أدلجة الفرد والمجتمع الآشوري المؤمن لكي يتنازل عن حقه ويتراجع عن الدفاع عن خصوصيته، ويتقبل ثقافة الموت لأجل الملكوت، وبالتالي تعرض الى الإذلال والقتل والتشريد، وانتهى به المطاف كأقلية مشتتة في عدة طوائف متناحرة تعود لتلك الكنيسة التي فاق أعداد المنتمين يوماً إليها الخمسين مليوناً.

رغم كل ما أشرنا إليه يبدو أن القائمين على طوائف هذه الكنيسة يسيرون على خطى ونهج أسلافهم، منهم من يبريء الأتراك من دم مئات الآلاف من الأبرياء بذريعة “التسامح” وآخرون يمجدون ديمقراطية السلطات الكردية بذريعة “العيش المشترك” فلا يتركون الموتى يرتاحون في قبورهم ولا يساندون الأحياء لينعموا على أرضهم بالسلام والعيش الكريم. شعب بأكمله تشتت واضطُهِد طوال الثلاثة عقود الماضية ولازال، بينما هم يتجولون في اروقة الأنظمة العراقية الفاسدة بحثاً عن منافع طائفية وشخصية، تُرى! أين هذا كله من الحق والصدق والإخلاص والتسامح والتواضع والشهامة في المسيحية؟.

ختاماً وللأمانة التاريخية نقول: هذه ليست الكنيسة التي قال عنها السيد المسيح بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، فإذا لم تخطو قياداتها خارج أسوار ممالكهم الصغيرة ليروا المشهد بأكمله! حقاً حينها سوف تتحطم على صخرة الأجتهادات القديمة الجديدة الخاطئة، والإهمال المتعمد لإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الآوان.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, دين, كتب , تاريخ. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.