المسيحية ، نعمة أم نقمة، على الآشوريين ؟؟

تساؤل قد يبدو غريباً وصادماً للكثير من أبناء شعبنا الآشوري المسيحي، وهو يستعد هذه الأيام لاستقبال أعياد الميلاد المجيد . قد يتساءل البعض ، ما الجدوى من طرح هكذا قضية بالغة الحساسية في هذه المرحلة وبعد ألفي عام من اعتناق الآشوريين للمسيحية ؟؟. قطعاً، المقال ليس للتشكيك بالعقيدة المسيحية أو للنيل من ألوهية و قدسية السيد المسيح له كل المجد ، وإنما هو “جردة حساب ” ، من وجهة نظر سياسية قومية ، لما جناه الشعب الآشوري من المسيحية وهو قدم لأجلها آلاف بل ملايين الشهداء . وجهة نظرنا تنطلق من المفارقة التاريخية التالية: (العبرانيون اليهود) ، رغم قلة عددهم و افتقارهم إلى إرث حضاري وتشتتهم خارج إسرائيل، نجحوا في استعادة أرضهم وإقامة دولتهم في وطنهم الأم( إسرائيل – ارض الميعاد) بعد أكثر من 2700 عام من سقوطها على أيدي ملوك بابل وآشور. بينما (الآشوريون)، ورثة أقوى الإمبراطوريات وأعظم الحضارات القديمة، أخفقوا في استعادة مجدهم السياسي وإعادة بناء دولتهم الآشورية، ولو على جزء من وطنهم التاريخي (بلاد ما بين النهرين- بلاد آشور).
أعتقد بأن السبب الأساسي هو الاختلاف الكبير بين (العقيدة والمفاهيم اليهودية) و ( العقيدة والمفاهيم المسيحية) .. ( التلمود والتوراة ) لعبا دوراً كبيراُ وإيجابياً في الحياة السياسية والقومية للعبرانيين، من خلال التبشير بـ “الوعد الإلهي” لليهود وحث يهود الشتات على العودة أرض المعياد (إسرائيل). يعتقد اليهود أن (الإله) وعد إبراهيم وعاهده على أن تكون هذه الأرض( إسرائيل ) لنسله. جاء في سفر التكوين 15: 7 : قَالَ لَهُ: ” أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا “. أنبياء وحاخامات اليهود بشروا بهذا “الوعد الإلهي” و شحنوا به عقول اليهود ، حتى غدت “الأسطورة اليهودية” بمثابة “حقيقة مطلقة” لدى العبرانيين اليهود . الحركة الصهيونية والمنظمات السياسية اليهودية ، وظفت ” الوعد الإلهي – أرض الميعاد” في خدمة مشروعها القومي القائم على ” عودة يهود الشتات الى أرض الميعاد وإعادة إقامة دولة إسرائيل للشعب اليهودي ” وقد نجحت في تحقيق “النبوءة – الأسطورة التوراتية”.
بالمقابل، المسيحية ” عقيدة وشعائر ومؤسسة كنسية” لعبت ومازالت تلعب دوراً سلبياً في الحياة ( السياسية و القومية) للآشوريين (سرياناً كلداناً) . صحيح أن (الدولة الآشورية) سقطت( 612 ق.م ) قبل قرون من ظهور (المسيحية). فهي (المسيحية) ليست مسؤولة عن أفول الإمبراطورية الآشورية وعن خروج الآشوريين من التاريخ السياسي للعالم . لكن بدخول الآشوريين للمسيحية ، فقدوا الكثير من خصالهم وسماتهم القومية. المسيحية أحدثت ” قطيعة تاريخية” بين الشعب الآشوري وتراثه الحضاري العريق وقتلت (العقل الجمعي) لدى الآشوريين. الكنيسة نبذت وحاربت (التراث الآشوري ) بحجة أنه يعود الى (المرحلة الوثنية). خطورة ما أقدمت عليه الكنيسة، لا يدركها إلا من يعلم بأن “روح الشعوب تكمن في تراثها”.
الآشوريون وجودوا في قيم ومبادئ المسيحية ، نوع من العزاء والخلاص الروحي لهم.. ” مملكتي ليست من هذا العالم .. أحبوا أعدائكم.. سامحوا لا عينكم .. عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أَنْ تَخْضَعَ لِلسُّلْطَاتِ الْحَاكِمَةِ. فَلا سُلْطَةَ إِلّا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالسُّلْطَاتُ الْقَائِمَةُ مُرَتَّبَةٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ- من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 13 “.. هذه المقولات وغيرها من المفاهيم المسيحية، عززت روح الاستسلام والخنوع لدى الإنسان الآشوري وقتلت فيه روح المقاومة التي تميز بها .. المسيحية، حولت اهتمام الإنسان الآشوري من الحياة الدنيوية الى الحياة الأبدية( الآخرة)، اي العمل للآخرة بدلاً من أن يعمل لحاضره ومستقبله . عشرات بل مئات الآلاف من الآشوريين(سرياناً كلداناً) تنسكوا (أصبحوا رهبان)، عزفوا عن الزواج وهذا سبب انخفاضاً كبيراً في تعداد الآشوريين. المسيحية بمفاهيمها و قيمها و تأثيراتها (الروحية والاجتماعية والأخلاقية)، ساهمت في تقويض الوجود الآشوري وانسلاخ الآشوريين عن هويتهم القومية . المسيحية أحدثت تحولاً عميقاً وانقلاباً كبيراً في حياة ومفاهيم الإنسان الآشوري. المسيحية اقتلعت الإنسان الآشوري من جذوره الحضارية وسلخته عن تراثه وتاريخه . أعادت تشكيل وعيه وتكوين شخصية وفق العقيدة والمفاهيم المسيحية، بعيداً عن الروح القومية الآشورية، بل على النقيض منها. على خلفية الاجتهادات والخلافات اللاهوتية حول طبيعة السيد المسيح وهل العذراء مريم والدة الله أم والدة المسيح وغيرها من البدع، انقسم الشعب الآشوري على نفسه الى طوائف ومذاهب ( أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية وإنجليين) . مع الزمن انقسمت الطائفة الواحدة على نفسها و تعمقت الانقسامات وتباعدت الطوائف والمذاهب عن بعضها أكثر فأكثر ، ثقافياً واجتماعياً وفكرياً. كل طائفة تنظر اليوم لنفسها على أنها قومية وأمة بذاتها (الأمة الآشورية .. الأمة السريانية .. الأمة الكلدانية . الأمة الآرامية . الأمة المارونية )، ومنها من استعرب وذاب في بوتقة القومية العربية، مثل الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك. توحيد هذه الطوائف تحت التسمية الآشورية أو تحت أية تسمية قومية أخرى جامعة، يحتاج إلى معجزة. البعض يتسائل : لماذا المسيحية لم تكن عائقاً أمام نهضة و تحرر شعوب وأمم مسيحية أخرى كثيرة مثل الشعوب الأوربية والأمريكية وغيرها ؟؟. لهؤلاء نقول: ثمة فارق كبير بين شعوب وأمم ، مثل ( الآشوريين والسوريين والأقباط الفراعنة) اعتنقت المسيحية وهي مستعمرة وارضها محتلة وإرادتها مصادرة من قبل المستعمرين ، وبين شعوب اعتنقت المسيحية وهي حرة محررة لها دولها تقرر مصيرها بيدها تمتلك إرادتها ، كما هو حال غالبية الشعوب الأوروبية والأمريكية وأمم مسيحية أخرى .
القول: “بأن الكنيسة لها فضل كبير في الحفاظ على الاسم الآشوري وعلى الهوية الآشورية وعلى اللغة الآشورية السريانية”. مثل هذا الكلام ينطوي على مغالطات كبيرة وفهم قاصر لطبيعة المجتمع الآشوري. الكنائس ( السريانية، الأرثوذكسية والكاثوليكية.. الكلدانية.. المشرق الآشورية، بشقيها..) تحمل تسميات طائفية مذهبية . حتى (كنيسة المشرق الآشورية) كانت تسمى (كنيسة فارس) ثم ( الكنيسة النسطورية). عودة الكنيسة إلى (التسمية الآشورية) حصل مع بروز (التيار القومي) في الأوساط الشعبية الآشورية. هذه العودة لا تعني “بأن كنيسة المشرق الآشورية حافظت على الاسم الآشوري والهوية الآشورية” ، إلا إذا كان( الشعب الآشوري) بالنسبة لأصحاب هذا الراي هو فقط أتباع كنيسة المشرق الآشورية، بشقيها(القديمة والجديدة) وهذا أخشى ما نخشاه . آشوريو الجبال والريف ، هم من حافظ على اللغة الآشورية(السريانية) وليست الكنيسة . معلولا الآرامية السورية وقرى أخرى في جبل القلمون،( المسلمون الآراميون) أكثر تمسكاً بلغتهم الأم ( الآرامية) من المسيحيين الآراميين.. تعريب (الطقس الكنسي)، يُعد جريمة ثقافية كبيرة ارتكبتها كنائسنا . تعريب الطقس، ساهم وإلى حد كبير ليس في تهميش وإهمال اللغة القومية(الآشورية – السريانية) فحسب وإنما ساهم في عملية تعريب الآشوريين(سرياناً كلداناً).قد يقول البعض إن هذا كله مسؤولية رجال الدين القائمين على الكنائس وليست مسؤولية(المسيحية) . لهؤلاء نقول: ومن الذي ألبس هؤلاء (ثوب الكهنوت) وجعلهم وكلاء الله وأوصياء على الشعب الآشوري، أليست المسيحية ؟؟؟ . البعض يقول ” لو لم يعتنق الآشوريون المسيحية ، لذابوا في المجتمعات والقوميات الأخرى ” .. لهؤلاء نقول، جميع الأقوام والشعوب المشرقية الغير مسيحية حافظت على هويتها وقوميتها وتراثها الخاص أفضل بكثير من الآشوريين ومن بقية الشعوب والأقوام المسيحية الأخرى( الأقباط الفراعنة و السوريون)، بل الكثير من هذه الأقوام المسيحية ، أستُعربت وذابت في المجتمعات العربية . ألم يقل البطريرك (زكا) “دم العروبة يجري في عروقنا ” . كم من الويلات والابادة الجماعية تعرض لها الآشوريون (سرياناً كلداناً) عبر تاريخهم الطويل على أيدي المسلمين(التتر, العرب , الأتراك العثمانيين ، الفرس ، الأكراد) ، لا لجرم ارتكبوه وإنما فقط لأنهم مسيحيون.. أخيراً: في ضوء ما أوردناه و سقناه من حقائق تاريخية ووقائع مجتمعية ، يتضح بشكل جلي ، بأن” المسيحية ” مع أنها ” دعوة للتسامح والسلام والمحبة بين البشر” ، كانت ومازالت “نقمة ” على الآشوريين.

تنويه (nala4u) ; الموقع يتبنى التسمية الاشورية كقومية ,تاريخ ولغة ,

********************

https://www.youtube.com/@Nala4uTv

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, دين, كتب , تاريخ. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.