بقلم د.جميل حنا
القصارى في نكبات النصارى- شاهد عيان, إبادة شعب – الجزء الثالث والأخير
05/ 07 / 2011
http://nala4u.com
بلاد ما بين النهرين مهد الحضارات القديمة الغنية بثقافتها ما زالت تجلب إهتمام الباحثين والكتاب والمؤرخين حتى يومنا هذا. هؤلاء المهتمون من كافة أصقاع الكون بهذا الجزء من العالم يدونون تاريخ المنطقة الغني الزاخر العريق في كافة مجالات الحياة التاريحية والتراث والعقائد الدينية والثقافية والأداب والفلسفة…وكل الأحداث الهامة.هذه الحضارة قدمت للبشرية قيم ثقافية وعلمية وعمرانية وفنية وفلسفية ينهل من كنوزها المتطورة والمزدهرة في سبيل خدمة البشرية جمعاء.ولكن تاريخ المنطقة لم يكن فقط الإزدهار والبناء والتقدم والسلم .وإنما تعرضت مسيرة تطور الشعوب في المنطقة إلى إنتكاسات خطيرة بسبب حروب الغزوات الخارجية المدمرة التي أدة إلى هلاك ملايين البشر وخاصة من السكان الأصليين وتم تدمير المدن والقرى والممتلكات الزراعية مصدر العيش الأساسي للسكان, وأنتشرة المجاعة والأمراض, وأستفحل العداء بين مختلف الأقوام مما آدى إلى مـآسي فظيعة.وما زالت المنطقة تعيش حالة اللاستقرار وشبه حروب دائمة وهجمة شرسة للتعصب الديني والقومي وارهاب مخيف يحصد ارواح الابرياء من الناس سواء كانت من العنف الذي تمارسه السلطات الحاكمة أو المنظمات الارهابية.وفي هذه الظروف التي تشهدها العديد من الدول العربية بما يسمى ثورات الربيع العربي تقف الشعوب في هذه البلدان ومختلف القوى السياسية والاجتماعية أمام خيارات مصيرية لترسم معالم المستقبل. وحسن السير في الطريق السليم سيفتح آفاق المستقبل نحوالحرية والحياة الديمقراطية وبناء المجتمع وفق دساتير وقوانين إنسانية وديمقراطية تحقق العدالة لكل الشركاء من أبناء الوطن على اساس مساواة الجميع أمام القانون.وفي هذه الظروف التي تشهد بداية التحولات السياسية في الحياة الاجتماعية يقع على عاتق القوى المتنورة من مختلف التيارات اليسارية والليبرالية والشيوعية والديمقراطية والعلمانية بذل الجهود الكفيلة بعدم حرف الثورات عن مسارالمطلب الشعبي في التغيير الجذري للنظام السياسي وتحقيق الحرية والكرامة للمواطنين. والعمل على نبذ الممارسات العنصرية والحد من زرع ونشر الأفكار الهدامة للوحدة الاجتماعية, سواء في المدارس أو وسائل الأعلام أو من أي جهة أتت تحت طائلة تحمل المسؤولية القانونية على من يعمل على تكريس ذلك في المجتمع.أن توحيد الجهود وبناء النظام الديمقراطي المدني العلماني كفيل بأن يضع الحد لإنهاءالقتل وأرتكاب جرائم إبادة ضد الشعوب.وعلى القوى المذكورة أعلاه العمل على بناء علاقة صحيحة بين مختلف مكونات المجتمع وأحترام التنوع الديني والقومي والمذهبي ومنح الجميع حقوق بدون تمييز والتصدي لمحاولات التهميش أوالتعدي أوالقتل أو الإبادة أو حرمان أي فئة من حقوقها الطبيعية في الحياة الحرة والكريمة.
ما زالت البشرية في بداية القرن الحادي والعشرين وهي قطعت أشواطا في مجالات التطور العلمي والمعرفة العامة وتكنولوجيا وسائل الإتصال بين شعوب خلال العقود المنصرمة.و الكون باالرغم من كل هذا التطور الحاصل لم تستطع البشرية حتى الآن وضع حدا للحروب الطاحنة بين مختلف الشعوب ودول العالم.وهذا يدل على أن البشر بشكل عام وخاصة القوى المحلية والقطرية والاقليمية والعالمية المسيطرة على الوضع لم ترتقي بمستوى تفكيرها الإنساني إلى درجات عالية من الرقي ليكون رادعا لها لعدم إرتكاب الجرائم وقتل العشرات والمئات والآلاف والملايين من البشر من أجل الحفاظ أوالسيطرة على السلطة السياسية والا قتصادية والعسكرية ووسائل الاعلام… ومن هذا المنطلق أن غايتنا من الكتابة عن هذا الموضوع هو التأكيد, بأن ما يحصل اليوم في بقاع مختلفة من العالم من ممارسات إجرامية من قبل سلطات حاكمة أو دول أو قوى محلية أو منظمات إرهابية ,لا يختلف عما جرى قبل قرن أوأكثر من الزمن.والإضاءة على أحدى هذه المراحل التاريخية المظلمة والمأساوية التي عاشتها الشعوب بسبب التعصب الديني والقومي والجهل وبسبب ذلك أزهقت حياة مئات الآلاف من أبناء الأمة الآشورية بكل مكوناتها من أبناء الكنيسة الكلدانية والسريانية والكاثوليكية والبروتستانتية وأبناء كنيسة المشرق.وهدفنا من هذا كما ذكرنا سابقا ليس زرع الكراهية والعداء بين بين مختلف الأقوام وإنما أخذ العبر. أن جرائم الإبادة التي ترتكب ضد أبناء أي إثنية عرقية أو دينية أو مذهبية أو سياسيةهي كارثة للجميع ,هي مأساة للوطن .وأن اليقظة حيال الافكار والممارسات العدوانية لا يتم إلابالكشف المبكر عن دوافع الجريمة والعمل على منع حصولها باالوعي الثقافي وبروح المحبة والتسامح الحقيقي والألتزام بالقيم الإنسانية. والتأكيد بأن الجميع شركاء على الكرة الأرضية وفي الأوطان والجميع يتحمل مسؤولية مشتركة من أجل بناء حياة أفضل للبشرية جمعاء بعيدا عن الحروب .عالم يسوده السلم والتعايش المشترك بين جميع أبناءه.
بعد هذه المقدمة التي طالت شئ ما ,أعود مرة أخرى إلى كتاب( القصارى في نكبات النصارى- شاهد عيان) للأب إسحق أرملة, الذي دون ما شاهده من فظائع مريعة وسمعه أثناء الحرب الكونية الأولى,عن المذابح التي ارتكبت ضد المسيحيين في الأمبراطورية العثمانية .في منطقة ماردين هذه المدينة العريقة في القدم التي كانت تشكل جزء من الأمبراطورية الآشورية قديما .
أن الجرائم الفردية وجرائم الإبادة التي كانت شبه مستمرة منذ نهاية القرن التاسع عشرأستمرت وبشكل يتجاوز كل التصورات .وعندما دخلت الحكومة العثمانية الحرب الكونية الأولى 1914- 1918 إلى جانب ألمانيا والنمسا. وتحديدا في هذه السنوات بدء الشروع بتنفيذ مخطط رهيب ,وهو القضاء على من تبقى من المسيحيين. وفي الأول من تموزعام 1915 تم حصار المدن والبلدات والقرى حتى العاشر من شهر آب في منطقة طور عابدين جنوب شرق تركيا الحالية. وخلال فترة زمنية قصيرة ومنطقة جغرافية محددة قضي على عشرات الآلاف من الناس الأبرياء , ودمرة المساكن والممتلكات والمزارع على يد قوى العشائر الكردية المتعاونة مع العثمانيين. وكما ذكر سابقا كان والي آميد (ديار بكر) رشيد باشا السفاح كان المسؤول عن الولايات الشرقية ماردين آورهي(الرها) سعرة,سيواص, وان, بدليس, أرض الروم …(إلتزاما للأوامر العليا كان يصدر آوامره المشددة لرجالة ويعطي الإيعاز للأغوات الأكراد أن يقوموا على رأس عشائرهم بقتل الرجال والنساء والأطفال بدون شفقة وبأساليب همجية. والعمل بكل الوسائل الى إبادة المسيحيين في مناطق سكناهم وإبادة قوافل المهجرين منهم.وتطبيقا للأوامر الصادرة كان المأمورون يقومون بتنفيذ الجرئم وإبادة المسيحيين بالتعاون مع العشائر لكي يبرهنوا عن اخلاصهم للحكومة ولدينهم.
لم ينجوا من القتل إلا من ترك دينه مرغما أو من رغب فيهم من الأغوات فأخذوهم عبيدا- غير أن الذين نجوا لا يشكلون واحدا بالألف من الذين قتلوا في عشرات المدن والقرى في المناطق المذكورة- كان آلاف الأطفال الأبرياء يقتلون أو يرمون وهم أحياء في نهر دجلة أو يرموهم في الأبار العميقة أو الوديان السحيقة.كانت آلاف الأمهات تقتل فيبقى أولادهن الرضع على صدورهن يرضعون الجثة حتى يموتوا جثة على جثة. كانت آلاف النساء والفتيات تهتك أعراضهن ثم يقتلن والبعض كن يؤخذن سبايا للعيش في الذل والعبودية).
هذا الكتاب يضم في طياته صفحات مؤلمة وأحداث تاريخية مأساوية لايمكن للعقل الإنساني أن يتقبلها لفظاعة كيفية إرتكاب المجازر الوحشية بحق الأبرياء من الرضع إلى المسنين من الرجال إلى النساء.يسأل المرء نفسه هل يعقل أن يقوم إنسان ما بإرتكاب مثل هذه الجرائم الفظيعة؟ هل يمكن أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من الوحشية؟ أن شهود العيان وهم كثر من عاشوا وشاهدوا ونجوا من المجازر تحدثوا مما شاهدوه وقد تم توثيق الكثير من هذه الأحداث بواسطة هؤلاء الناجين. وكما يؤكد الكاتب كشاهد عيان على هذه المجازر هذه بعض الأمثلة حيث يذكر.مذبحة الجزيرة ,أثار رشيد بك والي ديار بكر الأكراد وحرضهم على سفك دماء المسيحيين دون استثناء وقتل رجال الدين وتم التنكيل بالجثث حيث قتلوا أعدادا كبيرة منهم وأستولوا على الأموال وسبوا النساء من الفتيان والفتيات وقتل في بلدة الجزير(7510) حسب وثيقة المطران (البطريك فيما بعد)مار أفرام برصوم المقدمة إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919 .
مذبحة سعرة ,كان يسكن هذه البلدة أكثر من أثني عشر ألف نسمة من المسيحيين. سعرة بلدة من ديار ربيعة قريبة من شط دجلة وكان يقيم فيها آدي شير المؤرخ والعلامة المشهور وكان يدير شؤوون الكنيسة الكلدانية.في آواسط حزيران 1915 تم الهجوم على بيوت المسيحيين ونكلوا بهم شديد التنكيل وقتلوهم وألقوا القبض على أكثر من ستمائة شخص وزجوهم في السجن وتعرضوا إلى التعذيب الشديد والقتل وأستدعي رجال الدين وتم تعذيبهم وقتلهم.
مذبحة دير العمر ودير الصليب وباسبرينا ومذيات وصلح جاء في وثيقة احصاء عدد القتلى في عام 1919 لأبناء كنيسة السريان الأورثوذكس التي قدمها المطران مار أفرام برصوم إلى مؤتمر السلام في باريس1919 بان عدد القتلى السريان في قصبة مذيات وضواحيها قد وصل إلى (25830)شخص.
مذبحة نصيبين ودارا ,نصيبين مدينة عريقة في القدم كانت مركزإشعاع حضاري وصرح علمي وديني ضم أكبر جامعات القرون الوسطى. كانت المدينة الفاصلة بين حدودالأمبراطوريتين الرومانية والفارسية, وكانت مركز مسيحي هام في الشرق منذالقرن الأول الميلادي بعد أن أعتنق سكانها من الآشوريون المسيحية, وأحتلها المسلمون في الثلث الاول من القرن السابع الميلادي,وما زالت فيه بعض الكنائس أشهرها كنيسة مار يعقوب النصيبيني . بلغ عدد الذين قتلوا حسب الوثائق المقدمة إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919 (7000) شخص.حيث كانت المدينة وضواحيها عرضة لهجمات العشائر الكردية وكانوا يبيدون المسيحيين. ويتطرق الكاتب إلى الكثير من الأحداث الدامية التي وقعت في تلك المنطقة ونذكر واحدة منها,(ويوم الثلاثاء 15حزيران احاط الجنود تكرارا بدور الارمن والسريان والكلدان والقوا القبض على جميع الرجال والشبان وزجوهم في السجن واستاقوهم نصف الليل الى خراب كورت وذبحوهم.
,ثم نظمت الحكومة لجنة للفتك بارواح المسيحيين المستوطنين في القرى المجاورة وخصت رئاسة اللجنة برفيق بن نظام الدين وقدور بك وسليمان مجر.فارسلوا رسلا الى المشايخ في قتل المسيحيين.من ذلك ان ابراهيم آغا خزنه اخرج النصارى من قريته وذبحهم قاطبة.واحمد اليوسف صاحب السيحة جمع نصارى القرى المصاقبة لقريته وذبحهم بيده.وعلى هذه الحالة يتطرق الكاتب كيف تم إبادة المسيحيين من سكان القرى مع الأسماء وكذلك حوادث دير الزعفران ومذبحة قلعة المرأة ومعصرتا وبافاوا وبنابيل والمنصورية والقصور. وفي الجزء الخامس والأخير يستعرض الكاتب الوان العذابات التي تعرض لها المسيحيون على يد قاتليهم وكيف كانوا يتفنون في اختراع الطرق الشيطانية للتنكيل بالبشر.
هذا الكتاب التاريخي الوثائقي الذي دون بدقة أحداث مأساوية يضع كل الشرفاء في العالم أمام تحديات كبيرة للوقوف في وجه الأعمال البربرية ومنع حصول مجازر إبادة عرقية جماعية جديدة لأي شعب كان على الكرة الأرضية.ودعوة للجميع وخاصة لهؤلاء الذين أرتكبوا المجازر أي من هم الورثة لهم الاعتراف بتلك المذابح.
د.جميل حنا