الشاعر والكاتب عمر شبلي
بقلم عمر شبلي
By Omar Chebli
19/4/2022
يا “بولصُ، إنَّ هوى الأوطانِ له ثمنُ
يا “بولصُ” هاتِ الشاي،
والشايُ يصيرُ عراقيّاً، إنْ تسكبْهُ أنتْ.
“خَدِّرْهُ” حتّى يغدوَ شايَ عراقْ.
يا “بولصُ”، هاتٍ لنا خَبَراً عن بغداد،
وهاتِ عناد.
واحفظْ ما ظلّ من الأسرى في “آراك”
أَوَتَذْكُرُ كم عانَيْنا، يا “بولصُ” من
فَتْكِ الداءِ هناكْ؟
يومِيّاً كانَ هنالكَ ينقصُ منّا بـ”السِلْمونِلّا” واحدْ،
أوْ أكثرَ من واحدْ.
وَبِلا إحساسٍ يحذفُهُ السجّانُ من التَعدادْ.
يا “بولصُ”، كان الموتْ لنا بالمِرصاد
وكان يقولُ له ذو الأوتادْ
يا موتُ تَقَدَّمْ بالأمراضِ، ولا
تحفلْ بالأعدادْ
قد مُتَّ غريباً، يا بولصْ”
قبرٌ في المنفى، لكنْ روحُكَ كانت في بغدادْ.
يا “بولصُ” إنَّ هوى الأوطانِ له ثمنٌ.
“هوى ناقتي خلفي، وقدّاميَ الهوى
وإنّي وإيّاها لمُخْتَلِفانِ”
لم تَخْتَرْ موتاً في المنفى.
يا “بولصُ”، إنَّ بلادَكَ قاسيةً كانتْ.
وعجيبٌ كنتَ تُحبُّ قساوتَها، وتقولْ:
جرحُ الأوطانِ ضِمادْ
سأظلُّ أناديكْ
هل تسمعُني، يا بولص”
والقبرُ بعيدٌ مثلُ عراقْ.
ما أحْوَجَنا، يا بولصُ، في هذا المنفى لِعناقْ
من ثِنْتَيْنِ وعشرينَ سنةْ
قَبَّلْتُكَ، ودَّعتْكً في “ميليا منصور” ببغداد
وأدري أنّي كنتُ أودِّعُ فيكَ عراقْ.
ووداعُكَ صعباً كان.
ورأيْتٌكَ تُمسكُني بيدي، وتقول:
أُحِسُّ بأنّا لن نتلاقى ثانية،
قد متَّ غريبا في أمريكا
من غيرِعراقْ
ووحيداً ليس لديكَ رفاقْ.
وتنادي أين غيومُكِ يا دنيا،
كيْ يأمرَها هارونُ وتمطرَ في بغدادْ.
أوَ تَذْكُرُ يا “بولصُ” كم كان لنا حُلُمٌ، ورِغاب؟
كانَت في الأسرِ تساعدُنا
في صُنْعِ إيابْ.
أَوَتَذْكُرُ كم كان الوهمُ المصنوعُ يساعدُنا
في صنْعِ إيابْ؟
قد كان الوهْمُ ضروريّاً جداً،
يا “بولصُ”، حين يلفُّ العمرَ عذابْ
كانت أخبارٌ مُثْخنةٌ بالموتِ تجيءُ
إليْنا، ثمَّ نحوِّلُها نصراً
كي لا يغدو الأسرُ بنا أسرَيْن
أتذكَّرُ حبَّكَ لي.
كم كنتَ تحاولُ أن تُخرجَني من “زيرِ زمين”
وتُشَجّعُ إخوتَكَ الأسرى،
وتطلبُ من “فوّازَ”، ومن “ضَحَوي”
بكتابةِ شيءٍ للأسرى
قِصَصٍ تحكي أمجادَ العربِ القدماءْ.
أَوَتذكرُ ما تركتْ فينا “شورش كوني”؟
أوَ تذكرُ ألبير من البصرة وهو يصوم مع الأسرى
ويراقب موتَ هلالِ الشهر؟
قد كنتَ تُشجّعه، وتقولُ له: صُمْهُ،
رمضانُ عراقْ
والدينُ عراق.
قد كنتَ عنيداً مثلَ الحريّةْ
تغتالُ الأسرَ، وتلغيهِ،
قد كان عنادُكَ يوميّاً يُجبرُنا أن
نَتَقدَّمَ صوبَ البابْ،
أيْ صَوْبَ عراقْ
ما كان بصدرِكَ غيرَ عراق
حتى في أمريكا.
يا “بولصُ”، لم يأسرْكَ الأسرُ، ولمْ
تَسْلُبْكَ الغربةُ صوتَ عراقْ.
يا “بولصُ” قد يَتَغَيَّرُ جسمٌ في الأسر،
قد يَبْيَضُّ الشعرُ وتَسْوَدُّ الدنيا.
قد يهزلُ جسمٌ، ثمَّ يموتْ.
لكنْ في مثلِكَ شيءٌ ليس يموتْ.
قدْ تنكسرُ السِكّينُ إذا قَسَتِ الأعناقْ
قد يَقتلُ “هولاكو” كُتُباً، ويظلُّ عراقْ
قد يَسْوَدُّ الماءُ بدجلةْ،
بل قد يَحْمَرُّ الماءُ، ولكنْ
يبقى النخلُ على الضفّةْ
يا “بولصُ” مُتَّ غريباً دونَ وطنْ.
لكنْ لن تنبتَ أنتَ هناكْ.
“تَبَدَّتْ لنا في أرضِ “تكساسَ” نخلةٌ
تَناءتْ بأرضِ الغربِ عن بلدِ النخلِ”
لن تنبتَ أنتَ هناكْ،
سيراكَ الناسُ على “دجلةْ”،
وستصبحُ نخلةَ “صقرِ قريشْ”
سيقومُ عراقُكَ من دمِهِ،
أوَما أبصرْتَ بسامرّاءَ “المَلوِيَّةْ”،
أو مِئذنةً، ويُؤَذِنُ فيها كلَّ صباحْ
مَهْدِيٌّ منتَظَرٌ؟
أوَما أبصرْتَ علامتَهُ؟
سيقومْ.
ويُؤذِّنُ فينا ثانيةً، ويقومُ عراقْ
ويقومُ عراقْ.
ويكونُ عناقْ
*
إشارات لا بد منها:
1 ــ بولص ملك خوشابة: ضابط عراقي أسير كان رائعاً جداً وشجاعاً ومساعداً لإخوته الأسرى، وكان لقوة شخصيته مسؤولاً عن الأسرى في “آراك مخصوص” هو ونِدُّه في الشجاعة والحكمة الرائد عائد. مات الرائد بولص في الغربة بعد احتلال الأمريكان العراق.
2 ــ خَدِّرْ: لهجة عراقية تعني إجعل الشاي ثقيلاً.
3 ــ آراك مخصوص كان المعسكر المعاقب للأسرى الوطنيين.
4 ــ ميليا منصور: فندق في بغداد.
5 ــ زير زمين: كلمة فارسية تعني تحت الأرض كانت زنازين مرعبة.
6 ــ فواز وإضحوي ضابطان عراقيان رائعان بوطنيتهما وذكائهما، كانا يكتبان قصصاً للأسرى ويقرؤها خزعل الملاّح بصوته العالي.
شورش كوني: تعني انتفاضة الجنفاص تمرد فيها الأسرى وعانينا منها كثيراً.
https://www.facebook.com/omar.chebli.984