بقلم سامي هاويل
الموضوع; الذات الممسوخة / الجزء الاول
14 / 09 / 2023
https://nala4u.com
غايتنا بالمطلق من هذه المقالة هي محاولة توجيه الأنظار الى بعض الأمور المفصلية المهمة للغاية، المتعلقة بالمؤسسة الكنسية، خاصة اننا نلتمس بين الحين والآخر وبشكل صارخ ما يمكننا أن نسميه “عداء موروث” على مستوى الشارع القومي الآشوري وايضا على مستوى رواد المنابر الكنسية، وبعض المنصات الإعلامية الحديثة العائدة الى آشوريين يتبعون تيارات مسيحية مختلفة، لكل ما يمت بصلة للآشورية من تاريخ وتراث وثقافة وخصوصية، يصل لدرجة الأتهام الباطل والكره المقيت. إننا لن نفلح في إيجاد حلول جذرية لهذه المعضلة دون ان نتسم بالموضوعية في البحث عن الأسباب المباشرة التي تقود الى هذه الممارسات التي تُبقي الشعب الآشوري في مرحلة البحث عن ذاته.
من المألوف بان المؤسسة الكنسية بكادرها وهيكليتها تعتبر من المسلمات التي لا يمكن مساسها، وهذا بحد ذاته منح سلطة كبيرة لرجال الدين للتدخل في إدارة شؤون المؤمنين وتلقينهم اجتهاداتهم التي اصابت في بعض الأحيان، واخفقت في اخرى منذ نشأتها الى اليوم، وبدون أدنى شك تضعنا المعطيات امام قناعة تامة بأن كفة الإخفاق هي التي كانت راجحة. إذن! عندما نتناول مسألة حساسة كهذه علينا ان نتجرد من الألتزامات التقليدية المألوفة، لكي لا يكون الطرح مجرد كلام إنشائي هزيل يفتقر الى الجرأة، وابسط مقومات المناقشة العقلانية الهادفة.
يروي لنا التاريخ عن ولايات عديدة ذات خصوصية آشورية ظهرت عقب سقوط الأمبراطورية الآشورية، صمدت بعضها لعدة قرون ومن ثم تلاشت، وما محاولة ولايتي مادا وأثورا للوحدة والأستقلال في فترة الهيمنة الأخمينية إلا دليل على تلك الميزة، مما يؤكد يقينا حضور وعي وفكر قومي متبلور بين النخب البارزة، خلق عندهم رغبة كبيرة للعمل من اجل الحفاظ على استمرارية الشعب الآشوري ومحاولة إعادة امجاده.
لقد لعبت المجاميع المسيحية المبكرة وبشكل خاص رجال الدين في كنيسة المشرق دوراً كبيرا في سلخ الإنسان الآشوري من جلوده الأصلية، عبر تكفير وتوثين إرثه وحضارته وتاريخه وتراثه، سواءً بدوافع من بعض النصوص الدينية المستقاة من التوراة، او نتيجة تصادم مع ابناء جلدتهم ممن تشبثوا بمعتقداتهم وديانتهم القديمة لعدة قرون بعد الميلاد، التي كانت معابدهم شاخصة وعامرة في مدن آشور وحران وحدياب، وهذا يبرر اسباب تلاشي تلك الولايات وعزوف الشعب الآشوري عن العمل لأجل إنشاء اخرى حديثة.
لقد ارضعوا الإنسان الآشوري من خلال التزامهم الحرفي الصارم بالنصوص الدينية المكتوبة مفاهيم واجتهادات قادته ليعادي اصوله التي اعتبروها معتقدات وثنية وعبادة اصنام، وجعلوا منه كائناً يتقبل كل انواع الأضطهاد تماشياً مع الإفراط الشديد في اعتماد الأسس المسيحية المتمثلة في المحبة والتسامح، هذه المفاهيم التي تبناها احبار الكنيسة وكادرها بكثير التطرف والغلو فاق تعاليم المسيح والمسيحية نفسها، فبدأ يتخلى عن إرثه وثقافته وتراثه ولو على مضض، وانعكس ذلك حتى على اسماء حديثي الولادة، حيث امتنعوا عن تداول اسمائهم، ليحل محلها اسماء دخيلة مستقاة من الكتب الدينية المقدسة، واخرى لقديسين اغريق ورومان وفرس، (وهنا لا بد من الإشارة بانه لهذا السبب عندما زار المبشرين والمستشرقين مواطن آشوريوا هكاري قبل حوالي القرنين من الزمن اعتقدوا في البداية بأنهم من بقايا اسباط اليهود المسبيين).
يمكننا بهذا الصدد ان نستشهد ببعض الأمثلة المحدودة التي تؤكد يقينا ما نذهب إليه، فالموضوع لكي يوفى حقه بحاجة الى بحث دقيق ومفصل.
على سبيل المثال في زمن الملك كسرا غالبا ما تم تشبيه السلطة الساسانية بالأمبراطورية الآشورية، كونهم وثنيين عبدة النار، ويتميزون بالعنف والقسوة، (وهذه الصفات مستوحاة من التوراة بشكل خاص في وصف الآشوريين، وهي بالتأكيد بعيدة عن الإطار الأكاديمي)، واعتبروا الساسانيين مكملين للأمبراطورية الآشورية. فعندما غزوا انطاكيا ونهبوا بيوتها واديرتها وقتلوا سكانها العزل، قال مار افرام الكبير “الله الذي يجعل الحكم للمظطهدين، بعد وقت قصير أيقظ الآشوريين ضده وضد المدينة بحسب قول النبي (آشور هو قضيب غضبي والذي يحمل بيده عصى سخطي أُرسله ضد أُمة منافقة وأوصيه على شعبي الذي غضبت عليه ليغنم غنائمهم ويستولي على أسلابهم ويطأُهم كما يطأون الوحل). وبعد ثلاثة سنوات ذهب خسرو ضد أنطاكيا”.
هكذا ايضا روى هذه الواقعة مار يوخنا أسقف أفسس (505 – 585) حيث قال ان “كسرا غزاها وسلبها ونهبها ثم سلمها ليد الآشوريين”!. في إشارة الى الساسانيين، وفي حادثة اخرى يذهب مار افرام الكبير في وصفه لفارس بـ “آثور القذرة أم الفساد”.
على نفس هذا النحو نقرأ ايضا لمار ميخائيل الكبير ( 1166 – 1199م) في وصفه للأتباكيين، وعند حديثه عن حاكم نينوى الأتباكي ينعته بـ “الخنزير الآشوري!”.
لقد استمر هذا الأزدراء لقرون عديدة، ربما لم يصلنا الكثيرمن الأجتهادات المشابهة لها، ولكن على ما يبدو بأن غياب النخب القومية في الفترة ما بعد الميلاد لهو دليل كافٍ على النهج المعادي للآشورية على يد كبار رجال الدين في الكنيسة، اولاءك الذين يعتبرون في نظر عموم الشعب المنكوب وريثي سلطة الله على الأرض، ووسيلة الخلاص من الموت الأزلي، والسبيل الوحيد لنيل الحياة الأبدية.
هكذا بقي الأنسان الآشوري تائهاً يترنح بين إيمانه المسيحي وكيانه وخصوصيته القومية التي بقيت شاخصة في ذاكرته العليلة المتعبة، مع انه رغم ذلك تمكن بشكل او بآخر من الأحتفاظ بما يضمن ديمومته، فعلى سبيل المثال تشبث رجال الدين بلغة الطقس (ܠܫܢܐ ܣܦܪܝܐ)، اللهجة المتداولة حينها في انطاكيا، بينما بقي عامة الشعب متمسكاً الى اليوم بتداول لغته الأصلية في حياته اليومية ( ܠܫܢܐ ܣܘܕܝܐ) اللغة المحكية بلهجاتها المختلفة والمفهومة للجميع، والتي تعتبر وريثة الأكادية والآشورية القديمة، عكس لغة الطقس التي لا يفهمها غالبية ابناء الشعب الآشوري، ولازالت كنائسنا تتبناها في طقوسها وهم يدركون جيداً ان غالبية اتباعهم بما فيهم الكثير من الكهنة لا يجيدوها؟؟.
الى جانب هذه الأجتهادات الخاطئة يمكننا ايضا القول بأن الغلو في التدين الواصل لحد التطرف كان له ايضاً دور اساسي في دفع الإنسان الآشوري بعيداً عن وجوده وكينونته وخصوصيته، وما قوافل المبشرين الذي وصلوا اقاصي الشرق الى الصين والهند سيراً على اقدامهم، تاركين ورائهم شعبهم وارضهم وتراثهم وخصوصيتهم دون اي اهتمام إلا خير دليل على ذلك.
طالما نحن الآن نتحدث عن الغلو في التدين يمكننا ان نورد ادناه مقتطفات (ليست بحسب الترتيب) من تسبحة كتبها الجاثاليق الشهيد مار شمعون برصباعي ( 329 – 341 م) الذي استشهد مع اربعين آخرين من المؤمنين على يد شابور الثاني، في تلك الحقبة المعروفة بالأضطهاد الأربعيني، كتبها عندما كانت سيوف الساسانيين تجز رقاب عشرات الألوف من اتباعه. حيث يقول فيها:
المجد لك يا رب لأنك شئت بمحبتك ان تخلصنا.
المجد لك يا رب لأنك هديتنا من ضلال الأصنام.
المجد لك يا رب لأنك دعوتنا الى موطن السماء البهي.
المجد لك يا رب لأنك جعلتنا آية ناطقة لخدمتك.
مع ان هذه التسبحة بحد ذاتها تعبير واضح عن خطاب روحي ايماني بحت لا علاقة له بالماديات، ولكنه بالتالي انعكس على عموم المؤمنين في طريقة إدارة حياتهم اليومية، هذا الخطاب الشائع، الذي بلغ اقصى حدود التطرف في ازدراء الذات البشرية المادية واحتقارها، والحط من قيمتها، باعتبارها مجبولة بالخطيئة، كان سبباً مباشراً لإخفاق الإنسان الآشوري المسيحي في انتاج نخبة قومية واعية تنتشله من عمق دوامة صراعه الفكري المؤرق، وتعمل لحماية خصوصيته، وتجنبه قدر الإمكان هول كوارث حملات القتل والتشريد المتتالية، وهنا يمكننا القول بأنه عند دخولنا للمسيحية فشلت المختبرات الفكرية لدى قيادات كنيسة المشرق ، في خلق تفاعل بين المسيحية كدين مع ثقافة المجتمع الآشوري، بعكس قيادات كنائس الشعوب الأخرى، لا بل ذهبت بالأتجاه المعاكس لذلك، وهذا بحد ذاته القى بظلاله على شخصية الإنسان الآشوري وطريقة حياته، وقلب مفاهيمه، وخلق منه كائن ممسوخ الشخصيه، معاقاً فكرياً يعيش حالة صراع داخلي مرير للتوافق بين خصوصيته القومية “الممقوتة” وانتمائه العقائدي الديني.
وسط كل ذلك الضياع والتشتت الفكري وما رافقه من غزوات ومذابح طالت الشعب الآشوري كفرد وكمجتمع وتاريخ وتراث وفكر، وانعدام الأرضية الخصبة لولادة نخب وقيادات قومية، بالنتيجة بقيت دفة القيادة بيد رجال الدين عبر المؤسسة الكنسية على كلا الصعيدين الروحاني والمادي طيلة قرون خلت.
لا شك ان جميع المؤشرات تذهب نحو طبيعة الفكر السائد داخل المجتمع الآشوري، والأمثلة القليلة التي اوردناها تؤكد ذلك، لهذا انفرد الإنسان الآشوري دون بقية الشعوب التي دخلت المسيحية إليها، بهذا النوع من الخطاب المستوحى من اجتهادات قياداته الكنسية وقاده ليصل الى حافة الأندثار يجعلنا نكاد نستغرب كيف تمكن من الأستمرار طيلة ثمانية عشرة قرناً.
اليوم ايضاً شئنا ام ابينا فدور رجال الدين عبر المؤسسة الكنسية منذ نشأتها هو السائد والمؤثر في اوساط الشعب الآشوري، رغم بروز تيارات قومية وسياسية مرافقة للنهضة القومية الآشورية في المئة عام الماضية، إلا ان دور هذه المؤسسة وبحكم هوية اتباعها بقي ولازال بعيدا عن الطموح القومي، هذا بالإضافة الى ان تلك الآيديولوجية التي استهدفت التراث والتاريخ الآشوري لازالت عالقة في العقل الباطن للكثير من الآشوريين على مختلف مستوياتهم. ولا يسع المكان في هذه المقالة لنتطرق الى إشكالية الأنشقاقات الكنسية ودورها في تمزيق نسيج المجتمع الآشوري الى طوائف متعددة كانت الى فترة ليست ببعيدة تعادي وتحرم بعضها، وما تمخض عنها من إشكالية التسميات وما الى ذلك من تعقيدات فتحت الباب على مصراعيه امام اطراف خارجية لتتدخل بما تمليها عليها مصالحها، ولازالت قيادات هذه الطوائف مكتفية ظاهرياً بمخاطبة عاطفة اتباعها البسطاء، وهم موقنين في ذواتهم بان إعادة لُحمة كنيسة المشرق لن تتحقق ابداً.
رغم ان هذه المؤسسة في الوقت الحاضر لديها بعض المحاولات التي تتناغم وتتلاقى مع المصلحة القومية، ولكن؟ في ظل الغياب المؤثر لدور المؤسسات القومية الأجتماعية والمهنية والسياسية الآشورية، وبحكم حجمها وقاعدتها الجماهيرية الكبيرة لا زال دورها دون المستوى، وربما يمكننا القول أنه شبه غائب على مستويين.
الأول: العمل على تأويل واستخلاص الكثير مما مذكور في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد بما يخدم استمرارية وديمومة هذا الشعب والحفاض على إرثة وتراثه وحضارته، وتعزيز ثقة الإنسان الآشوري بنفسه، ومساعدته لإنهاء دوامة صراعه الفكري للتوافق بين خصوصيته وانتمائه القومي وبين انتمائه الديني.
الثاني: فبحكم إمكانياتها المادية وتأثيرها المباشر على الشعب الآشوري يمكنها تقديم الدعم اللازم للشخصيات الآشورية البارزة في مختلف المجالات كاللغة والتاريخ والتراث والفن ودعم المتفوقين في مجال الدراسات العليا وفي مجالات اخرى التي من شأنها ان تبرز هويتنا وخصوصيتنا، وحث النخب القومية لخلق المؤسسات التي اشرنا إليها سلفاً، ولها القدرة على الدفع باتجاه تفعيل القضية الآشورية محلياً ودولياً في هذه المرحلة التي بات وجودنا على الأرض مهدد، حيث تعتبر هذه المفصلية واجب يقع على عاتق الكنيسة في هذه المرحلة، لما لذلك من تأثير مباشر بشكل ايجابي على الفرد الآشوري، لكي يستعيد عافيته ويكون بمستوى التحديات التي تواجهه، وتأخذ على عاتقها مسؤولية الحفاظ على ديمومته واستمراريته وتضع القضية الآشورية على الطاولة محلياً ودولياً، خاصة بعد ان تشرد غالبيته في بلدان المهجر، وما تبقى منه على ارضه يعاني اليوم من تحديات صارخة تهدد استمراره عليها.