بقلم ميخائيل ممو
الموضوع; ذكرى يوم اللغة العالمي مأثرة تاريخية
mammoo20@hotmail.com
تمر علينا في غضون شهر شباط من كل عام الذكرى التي تتوج عالم العلم والمعرفة، عالم الفن الكتابي والتثقيف الذاتي، عالم “في البدء كان الكلمة…”، عالم “إقرأ ، إقرأ بإسم ربك…”. نعم هذا العالم الذي أكدت نوره نصوص الكتب السماوية وأضفت على جوهر اللغة هالة من التقديس لأهميتها في حياة الإنسان. ذلك العالم الذي زاد من معانيه وكثف من دلالاته أئمة الفكر من الفلاسفة والحكماء والأدباء والشعراء منذ فجر التاريخ ولحد يومنا الحاضر الذي أطرته منابع التقنيات الحديثة بغية الوعي الدائم في مسيرة الحياة.
لذا انه من الأهمية هنا، وفي اليوم المصادف 21 شباط 2015 ان نستذكر الذكرى الخامسة عشرة من يوم اللغة العالمي بإقرار منظمة اليونسكو على ضوء ذلك اليوم من عام 1999 الذي تم تدوينه والإعلان عنه بغية الإحتفال به وتبجيله منذ عام 2000 في كافة أنحاء العالم. على أثر ذلك، وعلى مدى الخمسة عشر عاماً استقبلت المؤسسات الثقافية والمكتبية الرسمية والمنتديات الأدبية والجهات المدرسية التربوية للإحتفاء بهذه المناسبة من خلال العديد من الفعاليات والنشاطات ذات الأهمية في حياة الطلبة وذوي العلاقة من المؤسسات الأخرى.
إن كان الهدف الرئيس من منظمة اليونسكو إحياء لغات العالم على أحسن وجه، فهي دلالة على ما لها من أهمية في حياة شعوب العالم أجمع دون تمييز بين لغة وأخرى، كون اللغة هي نسمة روح الحياة في جسد الوجود القومي والوطني لأية امة، وأداة التفاعل الإجتماعي، والوسيلة لدعم وإسناد ذلك التفاعل من أجل التطور والإنتماء تحت لواء الجماعة في المجتمع الذي ينضوي تحت سقف تلك اللغة.
كما وتبين من قرارات المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة& ( اليونسكو) هو محاولة الحفاظ على تلك اللغات التي أدرجت في قائمة الإندثار والزوال والذوبان، طالما لها جذورها في اللغات المستحدثة عنها بتداولها الشفهي لبعض الشعوب، وكتابة أيضاً بإنحصار آثار وجودها لدى المهتمين بتراثهم اللغوي ولدى المستشرقين المتخصصين بدراسة تلك اللغات التي منها اللغة الآرامية التي هي وليدة وامتداد جذور اللغة الأكدية أي البابلية الآشورية المألوفة على مدى طويل من القرون والعصور التاريخية، وعلى نحو خاص ومتميز في المراكز الدينية، حيث بدأ في عصرنا الحديث يشع نجمها ويسطع نورها بتفرع تسمياتها بعد تحررها من قبضة الإستعمار السياسي والإبادة الجماعية للناطقين بها وتشتت أبنائها في أصقاع العالم، لتعيد مجدها من أجواء تلك المناطق، كونها لغة الأسلاف والأخلاف أي التي تنحدر منها ذريتهم. وأكبر دليل على ذلك تأسيس المعاهد الأكاديمية والمجامع اللغوية الخاصة بها في العراق وسوريا منبع تلك اللغة وفي دول الشتات أيضاً، إضافة للمدارس الخاصة والرسمية في العديد من الدول كما هو الحال في عراق اليوم بصورة جلية في ثمار مدارسه.
ومتى ما تأملنا بشكل أوسع لفحوى قرارات اليونسكو لوجدنا بأن أهميتها لا تنحصر فقط لما أشرنا اليه، وإنما هي أبعد من ذلك، وفي مقدمتها الإحياء والتطور اللغوي لبسط نفوذها في حياة الشعوب الناطقة بها، والحفاظ على الإرث الحضاري بما فيه الثقافي والأدبي والعلمي. إضافة لإثراء الرصيد اللغوي وتوثيق حركة النقل والترجمة بين اللغات، وتشجيع الكتاب والأدباء والشعراء والعلماء في حقول مختلفة على البحث والإستقصاء والإستنتاج في مجال تخصصاتهم. ومن أهم الأسس المعمول بها حث وتشجيع الناشئة من طلبة المدارس على تعلم لغاتهم الأم حفاظاً على وجود الهوية القومية والإنتماء الإثني، وبغية فتح أبواب قنوات سهولة التواصل بين أبناء البلد الواحد، رغم تعدد اللغات فيه بحكم تعدد الإنتماءات القومية، كما هو الحال في العراق المتعدد المكونات بلغات مختلفة عن بعضها كالكردية والتركمانية والآشورية والأرمنية إلى جانب العربية التي هي بمثابة اللغة الرسمية في المدارس والدوائر الرسمية والإعلامية. فمن هم في دول الإغتراب التي ولدوا فيها قد يستصعب عليهم من التواصل كتابة أو تحدثاً مع أبناء البلد الأصلي إن تغافلوا عن لغاتهم الأصلية. لهذا يتبين لنا جلياً في بلدان الإغتراب الديمقراطية التي تولي الإهتمام على تعلم اللغة الأم، عادة ما توفر لهم مقاعد الدراسة الرسمية المنتظمة لتعلمها والإغتراف من مناهلها إلى جانب لغة البلد الرسمية، لكون من يتعلم ويتقن لغته الأم تتيسر عليه عملية استيعاب لغة البلد بشكل أفضل وأسهل حسب ما أكدته استنتاجات البحوث التربوية والنفسية على يد أمهر الخبراء التربويين والنفسيين. إلا أنه من المؤسف حقاً أن نجد هناك نسبة كبيرة من أولياء الأمور لا يعيرون أهمية لذلك بالرغم من الإرشادات والنصائح التي عادة ما تصلهم كتابة أو عن طريق المحادثة الدورية المباشرة مع المسؤولين والمرشدين التربويين في المدارس عن واقع مستوى التلاميذ خلال السنة وفي كافة مراحلهم الدراسية. فمنهم من يمتعض على حث فلذات أكبادهم من تعلم اللغة الأم،& ومنهم من لا يحمل الفكرة محمل الجد ليدعوا أبناءهم يتحكموا بما يرتأون، ليعضوا أصابع الندم فيما بعد حين يشعروا بأهمية وفاعلية اللغة الأم في الحياة العملية.
من الأهداف الرئيسة لمقررات منظمة اليونسكو بأن اللغة وسيلة لنشر الوعي بغية القضاء على آفة الأمية التي هي من أخطر الآفات الإجتماعية في حياة الشعوب، كتلك الحشرة الضارة التي تفسد الزرع. من هذا المنطلق تسعى المنظمة دوماً على إيجاد أنجع الحلول والتوصيات والإرشادات لتلافي مفعول تلك الآفة بإقدامها على عقد وتنظيم المؤتمرات الخاصة بذلك، فكان آخرها في منتصف كانون الأول / ديسمبر 2014 بإجتماع خبراء من وزارات التربية والتعليم، المؤسسات الأكاديمية، الهيئات الدولية، المنظّمات غير الحكومية والوكالات المتخصّصة في العالم العربي في بيروت، لبنان للمشاركة في ورشة العمل الإقليمية الثالثة حول “تطوير سياسات وممارسات المعلّمين في العالم العربي” بإلتقاء 45 من الخبراء الدوليين من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا والدول العربية لدراسة عوائق وإشكالات عملية التعليم اللغوي والخطط التي يستوجب الإعتماد عليها كحلول مستقبلية. ومن جملة ما توصل اليه المؤتمرون “بأن المعلم يشكل الدور الرئيسي في نجاح أي تطوير تربوي مهما كانت نوعية وجودة المناهج الدراسية ووفرة التقنيات التربوية. لذلك فإن الاهتمام بتأهيله وتدريبه يُعتبر من ضروريات نجاح النظام التربوي”.
هذا ما لا يمكن نكرانه، لكون المعلم هو بمثابة ذلك الفلاح الذي يوفر ما يدعم نجاح ما يصبو إليه في حقله. وكذلك هو بمثابة ذلك الطبيب الذي يوصي مرضاه بالدواء الذي يشفي الداء. وتساؤلنا هنا كيف يكون الحال إن أهمل المريض ذلك الدواء؟! ونعني هنا بأن نجاح العملية التعليمية والتربية لا تتوقف على المعلم فقط ، وإنما هناك عوامل أخرى لها دورها متمثلة بالتلميذ أولاً ومن ثم ما يشوّقه من المناهج إضافة لدور رعاية الوالدين والنظام المدرسي والمجتمعي.
ما يهمنا اليوم ولمناسبة يوم اللغة العالمي أن نسعى على الإرتقاء باللغات الأم في العصر التقني الحديث الذي قلص من زخم النشر الورقي في محدودية الكتب الصادرة في أرجاء العالم وعلى نحو تنازلي سنة بعد أخرى، وأن نشد من آزر المؤلفين والناشرين الذين انحصرت نتاجاتهم في الشبكات الحاسوبية والأجهزة التقنية الأخرى بالرغم من سهولة التواصل اليومي المباشر، لكون الكتب أداة حية لدبج وتسطير الأفكار، الإحتفظ بها والعودة اليها، سواء على رفوف المكتبات العامة أو الخاصة.
السبت 21 فبراير 2015
ايلاف