بطـــرس نباتـــي .. يحـاول الامسـاك بأحلامـه الورديـة الممنوعـة

بقـلم : مال اللــه فــرج
Malalah_faraj@yahoo. com
الموضوع; بطـــرس نباتـــي .. يحـاول الامسـاك بأحلامـه الورديـة الممنوعـة

22 / 05 / 2021
https://nala4u.com

برغم كل التحديات والمصائب والمصاعب المنوعة التي تحيط بنا من كل جانب سواء بفعل الفساد وتأثيراته ام بسبب كارثة كورونا وافرازاتها ام  بفعل التدخلات الخارجية والولاءات المختلفة التي تتقاطع والمصالح الوطنية وتحاول بشتى الاساليب ايقاف دوران عجلة التطور والابداع او عرقلة سيرها على الاقل بيد ان الحركة الابداعية العراقية ما تزال تمتلك معينا غير محدود من الثقة بالنفس وحيوية التطور وقدرة تستحق الاشادة على التحدي لترسم على وجه الزمن ملامح حبل سري ما يزال يربط بين رحم حضارتنا القديمة من سومر واكد وبابل وبين اجنة الابداع في عصرنا الراهن لاسيما في الميدانين الفكري والثقافي حيث يتابع الرأي العام باهتمام ثمرات مخاضنا الثقافي الابداعي المتواصل الذي يبشر بين يوم واخر بولادات جديدة متميزة سواء في مختلف ميادين الشعر والنثر والقصة والرواية ام في ميادين النقد الادبي والمقالات والمسلسلات الاذاعية والتلفازية وسواها ليؤكد للعالم اجمع  حيوية هذا الابداع الوطني وقدرته على رفد الواقع الثقافي واغنائه بولادات جديدة تواكب مختلف المتغيرات برغم كل التحديات.

مولـود ثقافـي جديـد

في خضم ما تقدم هاهم ادباؤنا ومثقفونا يطلون برؤسهم بين فترة واخرى بنتاجات تثري الواقع الثقافي وتعزز حيويته ، وهاهو الاديب المتميز بتنوع عطائه الابداعي بين القصة والشعر والنقد والعمل الصحفي والذي يوثق مكنوناته  الثقافية بالغات السريانية والعربية والكردية ، الاستاذ (بطرس هرمز نباتي) يطل برأسه حاملا بين يديه مولوده الثقافي الجديد   (احـلام ورديـة ممنوعـة) ليثري واقعنا الادبي  بقصصه المختلفة.
فعن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق الذي يواصل عطاؤه برغم كل المصاعب والتحديات صدرت هذه المجموعة القصصية للزميل نباتي لترسم تضاريس منجز جديد يضم عبر (90 ) صفحة (12) قصة منوعة في طرحها وسردها الشكلي لكنها تلتقي غالبا في معظم اتجاهاتها عند قضايا محددة يمثل الوطن والدفاع عنه وعراقة حضارتنا والصراع بين الرأسمالية والاشتراكية العمود الفقري فيها.

ميــزة نباتـي
ان ما يميز الاديب نباتي احتكامه لذكاء القارئ ونباهته فهو لا يضع على الطاولة هموم قصصه وابطالها واتجاهاتها دفعة واحدة لكنه عبر تسلسل الاحداث يتقافز هنا وهناك ممسكا باهتماماتنا ليشدنا الى تطورات التسلسل السردي لنجد انفسنا في عدة مواضع في ان واحد وعلينا ربما ان نعيد قراءة هذا النص او ذاك لنتلمس المعاني والايحاءات التي تختفي وراء السرد الشكلي الذي يتمازج مع القيم الخفية بشكل او باخر.

بذلك فان ابرز مايميز كتابات نباتي :
1 ــ تنوع اجواء احداثه وقدرته الحرفية في التمازج بين الواقع والحلم وتوظيف ذلك في خدمة الاهداف الكامنة بينهما ليصوغ لوحة ادبية متفردة في بلاغتها  اقرب ما تكون لسريالية الشكل لكننا عند التفرس بمنحنياتها والوانها وتشابك خطوطها هنا وتباعدها هناك نجدها واقعية المحتوى .
2 ــ احترامه لذكاء القارئ واحتكامه لذلك الذكاء وهو يقدم له وجبات ثقافية دسمة متداخلة الايحاءات منوعة الاتجاهات ويدعه يكتشف بنفسه ويمسك بين اصابعه اتجاهات العمود الفقري فيها وتشعباته العصبية التي تجمع كل الصور والايحاءات لتلتقي في النهاية عند هدف بعينه.

الربط بين الماضي والحاضر

 3 ــ ولعه الشخصي الشديد وحرصه على الربط بين الماضي والحاضر وتلمسه لمنابع حضاراتنا القديمه وهو اشبه بفارس يمتطي صهوة خيالاته كلما سنحت له الظروف عبر كتاباته المختلفة منطلقا عبر الزمن الى ذلك الماضي البعيد الذي يعشقه مزيلا غبار السنين عن ومضاته متجولا بين اروقة قصوره ومعابده وساحاته برفقة سادة تلك العصور من الملوك والقادة والفلاسفة وهو يحاورهم بمصائرهم متلمسا خصوصياتهم وانجازاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وكأنه يسائل نفسه بألم معتصرا مشاعره بأسى ، هامسا لذاته اين ذهب كل ذلك الارث الحضاري ولماذا اصابه هذا العقم والتخلف والجدب الذي بات يخيم على واقعنا ليغطي نبضات حياتنا الراهنة بمرارة الخيبة والضياع والتشرد وكأنني به يمسك بمصباح تلك الحضارات المندثرة وهو يقف على اطلالها ليضء بومضاته ظلمات وخواء الحاضر ويعيد عبر منتجه الثقافي ربط الحبل السري بينهما من اجل ان يختفي العقم وتزهر حياتنا مرة اخرى بولادات حضارية جديدة تمتلك شرعية التباهي بانتسابها لاشعاعات ماضينا العريق وفي مقدمته ومضات مسلة حمورابي التي اهدت البشرية اولى القوانين الانسانية واضاءت الحياة بقيم وسلطة وسلطان الحق والعدل والانصاف.

صراع الشغيلة والرأسمالية

ففي قصته (حلم احمر) كأني به يرسم تضاريس خارطة واضحة المعالم لصراع شبه خفي بين (ذكاء ) الشغيلة و(غباء) الراسمالية ، وفقا لتصوره عبر اقصوصة ربما تختصر الكثير  مما قيل وكتب في هذا المجال قوامها امتلاك رأسمالي لقطيع  كبير من الاغنام وراع لا يمتلك (طليا) واحدا وكل مهمته رعي اغنام مالكها (يوسف) فمن خلال (كذبة) ربما تكون عفوية وربما مقصودة ومدروسة جيدا يفاجأ الراعي (بولوسا) ذات صباح صاحب الاغنام بعزمه التوقف عن رعي اغنامه لان اغنامه هو ستكون كثيرة ، وعندما ساله بدهشة واستغراب من اين ستكون لك كل هذه الاغنام وهو يعلم جيدا بان ذلك الراعي لا يمتلك خروفا واحدا ، اجابه الراعي بحماس (ياعم منذ الغد او بعده سياخذون عشرة اغنام من قطيعك وعشرة من اخيك وعشرة من جارك وعشرة اخرى من ابن عمك وساصبح مثلك ، سأمتلك كل هذه الماشية وربما سافوقكم في الغنى).
سمع العم يوسف ذلك كله بذهول وبدل ان يناقشه لماذا سيحدث ذلك ومن سياخذ منه ماشيته سقط مغشيا عليه من هول الصدمة التي ربما تكون مزاحا ولم يمض عليه اسبوعا الا وكان قد فارق الحياة ، فهل كان المؤلف  يرمي من وراء ذلك رسم خارطة صراع بابسط صوره بين (غباء)  (راسمالي) كما يراه و(ذكاء) اشتراكي؟

شمعتان في ليلة الميلاد

اما في قصته (شمعتان في ليلة الميلاد) فانه يمسك بتلابيب البطل في ليلة الميلاد منتزعا اياه من حلم الاحتفالات الرومانسية ليلقي به وراء السواتر في جبهة المعارضة والقتال ضد الدكتاتورية التي  قد تلتهب في اية لحضة ربما ليهمس لنا ان الدفاع عن الديمقراطية وعن الحريات العامة والشخصية انما تعني الطريق للدفاع عن وطن امن مستقر وعن شعب ينعم بالطمانينية والسلام ؟ متابعا في الوقت نفسه مسيرة النضال التي يجب ان تكون على كل الجبهات والمستويات بوحدة الموقف الوطني ضد المخبر السري كما في قصته (من القاتل)، اما في قصة (قصرا) فانه يمسك باهتمامات القارئ وهو يفترض خروج الضحايا من بين ركام القبور لتحيط اصواتهم بالقس (الاب يوسب) وهم يشكون له عدم انصافهم ، فهل كان الكاتب يرمي من وراء ذلك اطلاق صرخة لانصاف الشهداء وضحايا النظام الدكتاتوري السابق؟في حين يستيعد بمداد من الحزن والاسى عبر قصته (الغرفة الخالية) معاناة اهالي الضحايا الذين ساقهم النظام السابق لجبهات القتال ولم يعودوا وبقي مصيرهم مجهولا عبر لوحة انسانية تدمي القلوب لأم ترنو لغرف الدار الخالية بعد ان كانت تضج بالحياة وبصراخ وقهقهات ومقالب ومعارك ابنائها واولادهم في حين تتسمر نظراتها وخفق قلبها المكلوم بباب غرفة ابنها (يوسف) الذي منذ ان ودعها بالقبلات والدموع وذهب لجبهات القتال لم يعد ولم تزل ضوع قبلاته واريج دموعه ونبض لهفته تبلل وجهها وعيناها ترنو لغرفته مخادعة النفس بانه قد يعود يوما رغم ايمانها بانه لن يعود .

اعطوا ما لله لقيصر
الى ذلك مهما حاول الاديب نباتي القفز خارج اطار الازمنة الماضية الا ان عشقه وتأثره بها يعيدانه لاحضانها مرة اخرى ، وهاهو في قصته (حكاية الاله ايا) يعود ثانية على الرغم من ان جوهر الحكاية يتعلق بعقوق الابناء تجاه الوالدين وهذا حدث ويحدث في كل زمان ومكان، فهل اراد من خلال حكاية الام التي يتنكر لها ابناؤها ان يعيد الى الاذهان ذاكرة وطن عريق وحضارات متمازجة تنكر لها ابناؤها فتفتت هنا وخبا نورها هناك ام يحاول ان يعيد تفعيل قيم الوفاء للوالدين وتأكيده تعالى في وصاياه العشر (اكرم اباك وامك)؟.

بطل الصدفة
اما في (حكاية العم توما) فانه يحاول رسم ملامح (بطل الصدفة) الذي هو نفسه يجهل كيف اصبح بطلا في لحضة هاربة من براثن الزمن ولماذا اقدم على ما اقدم عليه في تحطيمه لزجاج سيارة رجل تطارده الجماهير وهو شخصيا لا يعرفه ، في حين  يقف بواقعية ازاء مأساة ان يستولي الحكام والسياسيون الفاسدون على مقاليد الامور ويضعوا ايديهم الملطخة بالرذائل ليس على المال العام وحسب وانما حتى على الاستحقاقات الربانية الروحية مشيرا الى انه (  في احدى السنين خالف من كان يعلمنا قول الرب اعطوا ما لقيصر لقيصر ولكن البشر عكسوا الاية فاعطوا ما لله لقيصر ) ، موضحا (وعندما فعلوا ذلك ظهر على المسرح قياصرة كثيرون في زحمة المطالبة بما لله فاختلفت المقادير وضاعت القيم واختلت الموازين وتلاشت المحبة وسط الزحام وحلت العداوة محلها)، وما اشبه ما يحدث لدينا اليوم وفقا لما توقعه القاص بحكايته هذه التي كتب سطورها قبل اكثر من ثلاثين عاما وتحديدا في تشرين الاول 1992.

سأدك أسوارك يا ديلمون
اما في قصته (الهذيان الاخيرللملك نبونائيد) اخر ملوك بابلوالذي حدث خلال فترة حكمه (555 ــ 539 ق .م)الغزو الميدي لبابل والقضاء على الحكم الكلداني واعلان القصر الملكي تاجيل الاحتفالات باعياد اكيتو فانه يعود ليمازج بين الواقع والخيال وهو يتخيل نفسه مرافقا للملك وهما يتوجهان معا الى(ديلمون) التي وصفها (نبونائيد)بانها (هي سبب حزننا وبلائنا وهي التي جعلت مملكتي تتضور جوعا وتنعم هي بالنعم والسلام  )، مهددا اياها في الوقت نفسه (سأدك اسوارك يا ديلمون واجعل غربان العالم تنعق داخلك .. سأجعلك ملعونة الى الابد) ، ويضيف الكاتب ( مرت مركبة العاهل نبو نائيد الاخير من امامنا فيما كنت مع صاحبي نرتشف الكاس الاخيرة من القارورة الاولى).     
وهكذا تتوزع بقية اقاصيص هذا الكاتب المبدع المتنوع الاهتمامات الزميل الاديب بطرس نباتي بين الواقع والخيال وتمازج الماضي والحاضر وهمومنا اليومية وهو يحاول رسم ملامح لوحة ادبية تنبض بتنوع الحياة وتتلمس مشاكلها والتحديات التي تواجه انساننا المعاصر فيها ، وقد نجح حقا في المزاوجة بين هذا كله عبر هذه القدرة الذكية في المحاكاة الحضارية التاريخية من جهة وفي التوقف على رصيف حياتنا اليومية ليغني واقعنا الادبي بلوحات ثقافية ملونة تحمل كلا منها نكهتها الخاصة.

كلمة اخيرة
 واذا كان لابد من كلمة اخيرة ، فهي مشاعر محبة وتهنئة من القلب للزميل العزيز بطرس نباتي بصدور مجموعته القصصية هذه ، ومشاعر اشادة واعتزاز بالاتحاد العام للادباء والكتاب لحرصه على ادامة وضع الابداع الثقافي والادبي بين يدي القراء  وهو يؤكد باصداراته هذه ان مسيرة ابداع  الاسرة الثقافية ممثلة باتحادها العريق سيتواصل وان عمليات الولادة هذه لن تتوقف، وكان بودي ان يراجع الاتحاد مثل هذه الاصدارات ويدققها قبل دفعها للنشر وتصحيح الاخطاء فيها سواء اللغوية ام المطبعية التي قد تظهر هنا وهناك .

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, ثقافة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.