الإمبراطور آشور بانيبال
«آشور بانيبال».. أقدم مكتبات البشرية
2020-03-12
نالافوريو / الامارات (الاتحاد)
د. خزعل الماجدي
قال عنها هـ. جي ويلز في كتابه «الخطوط العريضة للتاريخ» إنها «أثمن مصدر للمواد التاريخية في العالم»، فإذا ما عرفنا أنها أُنشئت في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت تضم أكثر من 30 ألف لوح طيني، فستكون بالفعل «أثمن وأقدم وأكبر مكتبة عرفها التاريخ القديم».
لم يكن آشور بانيبال (668-627 قبل الميلاد) أعظم أباطرة العالم القديم فقط، بل كان أكثرهم تحضراً ووعياً وثقافة، ويردد عالم الآشوريات (ليو أوبنهايم) بحق الملك آشور بانيبال، ما ذكره آشوربانيبال عن نفسه، ببلاغة ووضوح، حيث يقول: احتفظت بكل المعارف الأولية بدءاً من السومريين، ودرست حكمة نابو واكتسبت فن الكتابة ومعرفة معظم الحكماء، وتعلمت رماية القوس والفروسية وقيادة العربات. وهكذا استطعت قراءة النصوص السومرية الغامضة والأكدية المعقدة وبحثت في الكتابة المسمارية على الحجر من قبل الطوفان.
حين قرر آشور بانيبال أن يُنشئ هذه المكتبة قام، لأجل ذلك، بإرسال كُتّاب بلاطه إلى جميع أنحاء بلاد الرافدين وجمع كل ما يعثرون عليه في القصور الملكية، لملوك وحكّام وادي الرافدين القدماء والمعاصرين له، من ألواحٍ طينية مكتوبة باللغتين السومرية والأكدية، وأمرهم بأن يعيدوا كتابة ما تلف منها، وأن يترجموا النصوص السومرية للأكدية، وهي اللغة التي كان يتكلم ويكتب بها الآشوريون، وحفظ فيها آلاف الألواح الطينية التي تمثل تراث الرافدين في جميع فروع المعرفة، وقاموا بفهرستها وتبويب موضوعاتها، ووضعها على رفوف متجانسة.
وتتكون المكتبة من قسمين، الأول في قصر سنحاريب، جد آشور بانيبال، وتحتوي أغلب الألواح الطينية التي كانت جاهزة للحفظ. والثاني في قصر آشور حيث أسس فيه مكتبة ثانية جمع فيها ألواحاً مختلفة عن الأولى، وكان يستخدم القصرين، في وقت واحد، خلال العام.
أخذت أعمال التنقيب تتكشف عن ما تركه هذا الملك من كنوز، وهي عملية استغرقت أكثر من 60 عاماً من الحفر والعمل وأكثر من ستة أجيال من الآثاريين. والحقيقة أن النصوص لم يعثر عليها في قصر واحد أو غرفة واحدة، بل وُجد معظمها متناثراً ومهشماً، وهو ما يعني أن المكان قد تعرض للتخريب أثناء هجوم تعرضت له نينوى في العام 611 ق. م تقريباً، بعد أن ذوت تلك الحضارة على أيدي خلفاء الملوك المؤسسين العظام ثم سقطت بغزو تحالف خارجي. كانت الألواح ملقاة بين الأنقاض وتحت الركام، وخلال سنوات جرى إعادة تركيبها وقراءتها كلمة كلمة وسطراً سطراً.
من عثر عليها.. ومتى؟
بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية واحتلال وحرق عاصمتها، نينوى في 611 ق.م، اختفت مكتبة آشور بانيبال، بقسميها، تحت وابل من الأحجار والصخور التي سدّت أبوابها فنسيها الغزاة وهجرها الناس وبقيت تحت الأنقاض ثم تلال التراب، وكانت النيران قد مسّت بعض ألواحها التي نال التفتت منها، لكنها لم تنصهر لأنها مصنوعة من الطين المفخور، وتساقط بعضها من مكانه وانكسر. وبقيت على حالها هذا لما يقرب من 2460 عاماً، وحين ظهر رواد علم الآثار والآشوريات بدأوا التنقيب في المواقع الأثرية الدالة على الآشوريين وحضارتهم. وفي تل كوينجق (نينوى القديمة، آخر عواصم الآشوريين) الذي يقع بالقرب من مدينة الموصل بدأت عمليات التنقيب. وعثروا عليها في أكثر من مكان، ووجد معظمها متناثراً ومهشماً، وقام عالم الآثار البريطاني أوستن هنري لايارد بالكشف، أولاً، عن الجزء الأكبر منها في قصر سنحاريب عام 1849. وتم نقل معظم ألواحها إلى إنجلترا ويمكن العثور على أغلبها الآن في المتحف البريطاني، لكنه لم يكن يعرف محتواها وكتابتها.
وبعد ثلاث سنوات، اكتشف عالم الآثار الموصلّي الآشوري هرمز رسام، مساعد لايارد، مكتبة قصر الملك آشور بانيبال، وقد وجدت هذه الألواح تحت حطام سلسلة من المخازن القريبة من مدخل القصر، على الجانب الآخر من تل كوينجق. وكان قد نالها التلف وخُلطت مع بعضها بعضاً حين وصلت إلى أوروبا.
ويبدو أن نظام المكتبة، في القصرين، كان يقضي بخزنها في غرفٍ خاصةٍ بالألواح، وحين يُراد قراءة هذه الألواح والاطلاع عليها كانت تُجلب من المخازن المصنّفة والمفهرسة، ويتم ذلك في باحة من باحات القصر أو في غرفٍ خاصة للمطالعة والاطلاع.
قام أُوستن هنري لايارد، بنشر كتابه «مكتشفات أطلال نينوى وبابل» وصدر في لندن لأول مرة سنة 1853، وشرح فيه اكتشافه لمكتبة آشوربانيبال، وقد ترجم الكتاب للعربية مؤخراً من قبل شيرين إيبش، وراجع الترجمة الدكتور أحمد إيبش، وصدر ضمن سلسلة (رواد المشرق العربي) والتي تصدرها (هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة)، دار الكتب الوطنية.
كنوز مكتبة آشور بانيبال:
تحتوي قاعدة بيانات مجموعات المتحف البريطاني على 30,943 «لوحاً» في مجموعة مكتبة نينوى بأكملها، واقترح أمناء المتحف إصدار فهرس محدث كجزء من مشروع مكتبة آشور بانيبال. وكان العالم الألماني كارل بيزولد قد قام بتصنيف محتويات المكتبة في خمسة مجلدات، محفوظة في المتحف البريطاني، كما يلي:
- تأريخ الأدب
- المكتبة الخاصة بالملك
- مكتبة المعبد
- المراسلات الملكية الرسمية
- العقود والمواثيق.
نصوص متنوعة
كان مضمون ألواح المكتبة متنوعاً يظهر على شكل التشريعات، والمراسلات والتعاقدات الأجنبية، والإعلانات الأرستقراطية، والمسائل المالية. واحتوت النصوص الباقية على نصوص أدبية ودينية وترانيم لمختلف الآلهة، في حين تضمنت أخرى موضوعات خاصة بالطب والفلك والأدب. واحتوت على أعمال أدبية معبرة مثل الملاحم والأساطير ومجموعة أخرى من النصوص الأدبية هي النصوص المعجمية وقوائم العلامات.
ويصنفها البعض إلى نوعين، الأول هو المؤلفات الأدبية مثل العرافة والنصوص الدينية والمعجمية والطبية والرياضية والتاريخية والملاحم والأساطير. والثاني هو الوثائق القانونية والخطابات والعقود والنصوص الإدارية.
المثير في الأمر أن عدد نصوص العرافة كان كبيراً فقد بلغت حوالي 759 نصاً، ويبدو أن آشور بانيبال كان مهتمّاً بجمع هذه النصوص، وكانت واحدة من بعض دوافعه لتشكيل مكتبته هذه، وهي تتناسب، ربما، مع دافعه الأصلي لاكتساب الطقوس والتعويذات التي كانت حيوية للحفاظ على سلطته الملكية.
ولعل من أبرز النصوص والأعمال المهمة في المكتبة الشهيرة ما يلي:
1- ملحمة جلجامش: التي اكتشفت من قبل أوستن هنري لايارد وهرمز رسام، ودبليو. ك. لوفتوس في عام 1853. ثم نُشرت أول ترجمة حديثة لها في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر قام بها جورج سميث. وكانت لسميث بعد ذلك اكتشافات أخرى للنصوص في بعثاته الأخيرة، والتي بلغت ذروتها في ترجمته النهائية التي وردت في كتابه «كتاب الكلدان عن سفر التكوين» الصادر عام 1880. وكان سميث قد ألقى محاضرة عام 1862، في الثالث من ديسمبر، أمام جمعية الآثار التوراتية التي كانت حديثة التكوين آنذاك، فصارت استنتاجاته أساس الدراسات التوراتية المقارنة بعدها.
وأعلن سميث في محاضرته أنه في أحد الألواح المستخرجة من خزانة الكتب الخاصة بالملك آشوربانيبال رواية الطوفان المشابهة لقصّة الطوفان المذكورة في سفر التكوين من التوراة.
2- أسطورة الخلق البابلية (إينوما إليش): وهي أكبر نصوص الخليقة في العالم القديم، استعادها أوستن هنري لايارد في عام 1849 (في شكل مجزأ). نشر جورج سميث لأول مرة شكلاً منها في عام 1876، ثم أدت الأبحاث النشطة وعمليات التنقيب الإضافية إلى قرب الانتهاء من النصوص، وتحسين الترجمة. وتضمنت حوالي ألف سطر مدونة على سبعة ألواح طينية، يحتوي كل منها على ما بين 115 و170 سطراً من الكتابة المسمارية باللغة الأكدية.
3- معاهدة إسرحدّون مع بعل من صور يضمن فيها الملك ولاء حاكم صور مقابل نفوذه على بعض المستوطنات مثل عكو ودور وجبيل.
4- موشور سرجون وهو نص عسكري يصف حملات سرجون الثاني في فلسطين وآدوم ومؤاب وغيرها.
5- لوح كوكب الزُّهرة لآمي صادوقا (الحاكم الرابع بعد حمورابي) الذي يعود لمنتصف القرن السابع عشر قبل الميلاد يرصد فيه أوقات صعود كوكب الزهرة ورؤيته الأولى والأخيرة في الأفق قبل أو بعد شروق الشمس وغروبها (صعود الشمس وإعدادات الزهرة) في شكل تواريخ القمر. يتم تسجيل هذه الملاحظات لمدة 21 عاماً.
6- نقش أزيكا (حزقيا) الذي يصف الحملة الآشورية التي قام بها سنحاريب ضد حزقيا، ملك يهوذا، بما في ذلك فتح عزة.
وهناك نصوص وملاحم وقصص كثيرة أخرى منها ملحمة الرجل الفقير من نيبور، وقصة آدابا… وغيرها.
ويبدو أن البروفيسور باتريك هانت كان على حق عندما ذكر في كتابه «الاكتشافات العشرة التي أعادت كتابة التاريخ» الصادر عام 2011، وهو المؤرخ والآثاري في جامعة لندن والأستاذ المحاضر في جامعات أوروبية وأميركية، بأن اكتشاف مكتبة آشوربانيبال يعدّ واحداً من أهم عشرة اكتشافات ساهمت في إعادة التاريخ البشري، رغم أن هناك الكثير من ألواح هذه المكتبة لم يكشف عن مضمونه بعد.