عذراً أبينا البطريرك،فدعوتك لنا ينقصها الشوكة والسكّين

بقلم سامي هاويل
عذراً أبينا البطريرك، فدعوتك لنا ينقصها الشوكة والسكّين

18/ 10 / 2013
http://nala4u.com

غبطة البطريرك مار لويس روفايل الأول ساكو الكلي الأحترام
لكم مني أعطر سلام وأطيب التحايا
لقد علّق بعض الزملاء على دعوتكم الأخيرة للمهاجرين تطلبون منهم العودة الى الوطن، وأظهروا نصف الكأس المملوئة ( الجانب الأيجابي من الحياة في الدول المتقدمة ) وأنا أتفق معهم الى حد كبير، وفي نفس الوقت أرفض أسلوب المخاطبة عند بعضهم ، لقد تأملت كثيرا في دعواتكم مقدراً شعوركم العالي وحرصكم الكبيرعلى مستقبنا كأُمة وككنيسة المشرق، ولن أًخفي على غبطتكم حزني العميق، عندما قرأت الدعوة، ومن قبلها ندائكم لمساعدة أهلنا وقرانا في الشمال، وما زادني حزنا هو عرض قرية سيكانيان كنموذج لسكن العائدين، أنها دعوة راعي صالح لقطيعه التائه في بلدان الأغتراب، دعوة ربما يعتبرها البعض مسكينة من الناحية المعيشية مقارنة ببلدان الغرب، ولكنها عظيمة بمعانيها، وكأنكم بظروفكم الصعبة تقولون تباً للمستحيل، وهذا الفعل النبيل حتما سيثير مشاعر الكثيرين من المغتربين وأنتباههم إن لم نقل أغلبهم، فأنا أقول ليبارككم الرب على هذه الخطوة الأولى من مسافة الألف ميل.

أبتي البطريرك الجزيل الأحترام
لكي أجعل من رسالتي هذه سلسة وخارجة عن قوالب وأطرالمقال السياسي، سأروي لكم حادثة حصلت معي البارحة، جعلتني أخرج من دائرة الصمت لأعلق بصدق على دعواتكم المسؤولة والرائعة.
قبل أيام ناولتني زوجتي ورقة أمتحان لأبني، وهو تلميذ في الصف الخامس الأبتدائي( 11 سنة ) دون علمه، حيث لم تكن النتيجة جيدة، وأبغلتني بأنه طلب منها أن توقع الورقة لأنه يجب عليه إعادتها الى المعلمة، وأعلمتني بأنها رفضت التوقيع وطلبت منه أن يناولني أياها لأوقعها، منذ أيام وأنا أُراقبه وأشعر بالحرج الذي هو فيه، حيث لا علم له بأنني قد أطلعت عليها. وبما أنه يجب عليه إعادتها اليوم  ( الجمعة ) الذي هو آخر أيام الأسبوع، أضطر ليلة البارحة أن يقدمها لي، ولكن كيف؟ دخل على الغرفة مسرعاً يحمل الورقة وقلم وقال، أبي هل لك أن توقع هنا على هذه الورقة ؟ بسرعة رجاءاً لأن الوقت تأخر وأنا أشعر بالنعاس الشديد، وكما تعلم فغداً لدي مدرسة. قلت له طيب أتركها هنا لأطلع عليها ومن ثم أوقعها، فقال لا لا يجب أن توقعها حالاً لكي لا أنساها هنا، فقلت لا تقلق سأطلع عليها وأوقعها ومن ثم سأضعها على طاولتك، فظهرت على وجهه علامات المحصور في الزاوية، وأظهر أمتعاضة وإنزعاجه متحججاً، فقلت له طيب، هات لأوقعها، وما أن وضعت التوقيع عليها، حتى أنفرجت أساريره وخطفها مسرعا الى غرفته، بعد  مرور حوالي عشرون دقيقة دخلتُ الى الصالون وبصوت مرتفع بحيث تأكدت أنه سيصله وقلت، إنني أشعر بالجوع لذا سأشوي قليلاً من اللحم، ما أن أكملت جملتي حتى أنتبهت الى وقع أقدامه ينزل السلم مسرعاً وقال، هذه فكرة جيدة لأنني أشتهيت اللحم المشوي واشعر بالجوع!! نظرت إليه مبتسماً، فضحك هو وقال، حسناً حسناً سأجلب ورقة الأمتحان لنناقشها الآن بشرط أن تشوي قليلا من اللحم، فوافقت بعد أن وعدني بأن لا يكرر ذلك ابداً.

أبينا البطريرك
للتو بعد هذه الحادثة الطريفة، خطرت لي دعواتكم التي وجهتموها، فالأولى طلبتم منا مساعدة قرانا في الشمال، مع فائق أحترامي الكبير لغبطكم، نحن أعطيناكم الأذن الطرشى، لا بل نقدكم أحد الزملاء لأنكم أطلقتم على هذه المنطقة أسم شمال العراق وليس ” كردستان”، وفي دعوتكم الأخيرة لنا للعودة، أظهر بعض الأخوة عتاباً لأنكم وصفتمونا بالعاطلين عن العمل وذكروا بأننا هنا نعمل بأحترام ولسنا عاطلين نعيش على المساعدات الحكومية؟ وأنا متأكد من صدقهم حيث هناك الكثير الكثير من الناجحين في أعمالهم.

غبطة أبينا البطريرك
 رووا آبائنا حادثة فيها الكثير من المعاني، وهي عن البطريرك الشهيد مار بنيامين شمعون عندما نزح جزء من شعبنا الآشوري من هكاري، أبان الحرب العالمية الأولى، وبينما كانوا قد حطوا الرحال مساءً بعيداً عن قراهم، وبينما كان البطريرك الشهيد يتحدث عن ألمه وحزنه لما حدث، ومن بين جملة الأمور التي تحدث عنها نظر بأتجاه قريته التي أجتاحها الجيش التركي وقال “كم أنا متشوق لشرب الماء من ينبوع القرية” وبينما كانوا نائمون ليلاً أنطلق ثلاثة من الشجعان الذين سمعوه نحو هكاري مخترقين الجيش التركي خلسةً ، وصلوا الى الينبوع، ملؤوا الحاوية من مائها وعادوا في الصباح ليقدموها للبطريرك محققين أمنيته.

والآن دعني أسألكم أبينا البطريرك،
 طالما إننا نعمل كما ذكر بعض الزملاء في مقالاتهم، وأمورنا المادية جيدة، فهل لبينا دعوتكم الأولى؟
أم هل أظهرنا أهتماماَ بها؟ أو قليلا من الأحترام لغبطتكم كراعي لإحدى أكبر كنائسنا؟

 ربما  خانتنا الذاكرة ونسينا بان دعوتكم ليست فقط لنا، بل هي أيضاً تشمل هؤلاء المنكوبين الذين يعيشون مرارة الغربة والعوز والخوف في سورية والأردن وتركيا، ربما لم ندرك بأنها كانت تشجيعاً للباقين في الوطن، ليتشبثوا بأرضهم وأرضنا ويحافضوا على وجودنا هناك، إذا لم يكن بإمكاننا العودة، فعلى الأقل كان علينا ألتزام الصمت، ولكن هيهات، فجميعنا أصبحنا كُتّاباً وسياسيين ومؤرخين ومنظرين.

غبطة البطريرك، والآن دعني أحدثكم عن النصف الفارغ من الكأس.
لا تقلق غبطتكم علينا فنحن نعيش في معقل العولمة والتطور والديمقراطية والأمان، رغم شكرنا لهذه البلدان التي حضنتنا ومدت يد العون لنا وأعطتنا جنسياتها وكامل الحقوق، ولكنكم تستطيعون أن تسألوننا، عندما نترك المنزل بكم من الأقفال نغلق الباب؟، أسألونا أين نخبيء مقتنياتنا الثمينة؟ فحتى الشياطين لن تعثر عليها. أبينا، لأننا أهملنا بيتنا الكبير (مجتمعنا) أسألونا كم من الآباء هنا لا يؤرق نومهم غياب أبنهم من البيت ليلاً، أسألونا كم منا يفيق صباحاً مبللة وسادته بدموع الشوق بعد أن حلم بذكريات الوطن؟، وأسالونا كم نعمل بشقاء لكي نعيش معززين؟.

أما عن شعاركم أبينا

الوحدة:
أبينا، فهنا عَلِمنا من أية قبيلة كلُ منا، والى أي مذهب ننتمي، هنا نستطيع أن نميز بسهولة بين أبناء أمتنا مَن هو مِن تركيا أو سوريا أو أيران أوالعراق. أبينا هنا حتى القديسين وزعناهم على عشائرنا ومناطقنا وجمعياتنا، نقيم لهم التذكار، لقد أصدرنا شهادة وفاة الوحدة، وقتلنا الأمل في قلوبنا، وهجرتنا الحكمة والنقاء، أبينا نحن لسنا فقط مغتربين! بل أصبحنا غرباء لبعضنا البعض وعلى ذاتنا أيضاً. أما وحدتكم الكنسية التي تنشدون لها، فاخبرونا قبل لقائكم بقداسة البطريرك مار دنخا الرابع لكي نقدم لكم الشروط.

الأصالة:
أبشرك أبينا بأصالتنا، لا تخافوا فنحن حريصين عليها! أبينا، أسمع هذه!! لقد قدّم البعض من المخلصين هنا منذ زمن طلباً لوزارة التربية الأسترالية لتدريس لغتنا الجميلة في المدارس الحكومية التي يدرس فيها أبنائنا، فلبّت الوزارة الطلب مشكورة، وعيّنَت مدرسين لهذا الغرض، ولكن أبينا!! لقد روى لي أحد الأصدقاء حواراً دار بينه وبين مدرسة أجنبية كانت تسأله مستغربة عن الفرق بين الكلدان والآشوريين، بأن أحد أخوتنا هرع يوماً الى أحدى المدارس الحكومية ووبّخ الإدارة مستنكرا لأن ولده قد حضر أحد دروس لغتنا، وطلب منهم بأن لا يدرسوا أبنه هذه اللغة، ولا يجب أن يبقى في الصف أثناء هذه الحصة، هل تعلم لماذا يا أبينا؟؟؟ لأنها معروفة في هذه المدارس “باللغة الآشورية”!، أبينا لقد سبقناكم بالعمل القومي هنا، فهل تعلم بان أبنائنا وهم بعمر الزهور قد نقشوا أعلامنا على جدران السجون؟ فلدينا في بلدان الأغتراب عشرة أضعاف المسجونين من أبناء أمتنا في العراق، وأغلبهم من فئة الشباب، نعم أبينا، هنا في أستراليا وقبل بضع سنوات خسرت جاليتنا أكثر من مائة مليون دولار، لأننا كنا أنانيون نفكر في جمع المال بأسهل الطرق، لأننا لم نستطع أن نقيم مرجعية موحدة تُرشدنا، أبينا وهنا ستتفاجأ بفئات الشباب الصغيرة في العمر وهم يتحدثون في الأماكن العامة بالعربية فيما بينهم ( مع أحترامنا لأعزائنا العرب واللغة العربية )، فيما بقيت لغتنا منسية، فلا عتب عليهم إذا كان أهلهم يتحدثون بالعربية  في الشارع وفي البيت. أبينا لقد نسينا طقوسنا الكنسية هنا، فنحن لا نذهب للكنيسة للصلاة، وكيف لنا أن نًصلي وقلوبنا يملؤها الحقد والضغينة والأنانية ، أبينا الكثيرين منا نذهب الأحد صباحاً من أجل “البيض المسلوق” الذي يقدموه للفطور بعد القداس، فهو طيب أثناء المأدبة الجماعية، وإذا لم يتوفر في أحدِ ما، هناك من سيسأل ويستفسر عن السبب، وربما يُحدث غيابه من المائدة جدالاً!! أبينا، فإلى جانب مَيزتها الروحية نحن لا ننظر لكنائسنا كمؤسسات، وكأملاك لهذه الأمة،ولا نكترث لطقوسنا الغنية والرائعة ولا يهمنا إن بقيت أم تلاشت، فقداديس أخوتنا الأقباط وغيرهم من الكنائس مشوقة، ومواعضهم مفهومة ومفيدة، حتى لو لم يناولوننا القربان!! ما يهمنا هو الجنّة لا غيرها، حتى لو حصلنا عليها بالخداع، لأن الروح ماتت في داخلنا. فبقينا أشباه المسيحيين وأنصاف القوميين،

التجدد:
لقد حققنا التجدد أبينا، فهنا طورنا عاداتنا لتتلائم مع التجدد، مثلاً أرتفع سعر “الترجيات” للشباب الذكور بعد زيادة الطلب عليها!، أبينا، عندما تنظر الى بعض شبابنا سيصيبك الهلع، فحتى الديك الرومي يغار من تسريحة شعرهم والوانها، أبينا هنا علينا التأكد من أمان المكان الذي نجلس فيه في حفلات الزفاف وغيرها من المناسبات، مثلا يجب أن نختار مكاناً ملاصقاً من الخلف للحائط لتجنب زحمة الذين يسرعون الى المسرح للرقص الشرقي عندما يبدأ المطرب بالأغاني العربية، ولا رغبة لي لأنسف المسرح أيضاً في هذا المقال، نعم أبينا فهذه أيضا تستطيع أن تشملها في ” الأصالة” لأننا نحتفظ بإرثنا وعاداتنا وتقاليدنا.

أبينا إذا التزمتم الصمت نسأل لماذا؟ ونحن اليوم في ظرف نحتاج للنصيحة ونحتاج لمن يهدينا!، وإذا نصحتنا فلن نرضى، أبينا لو قدمتم لنا رداءً ناصع البياض فلن تقع أنظارنا إلا على النقطة الصغيرة الداكنة فيه، وإذا طلبتم المساعدة يصيبنا الطرش، وإذا عرضتم علينا أحوالكم فلن نرى إلا ما يعجبنا، وإذا قدمتم مقترحاً، لابُد لنا أن نعترض ونأتي بالنقيض حتى لو كان من المحرمات، لأننا نرى بعين حولاء واحدة، ونسمع بأذن واحدة ، ونتكلم بفمين، أبينا لن نعود لأنكم لن توفروا لنا المصفحات لحمايتنا، فالموت عندنا هو مفخخة أو رصاصة غادرة، وكأننا سنعيش أبداً، هكذا أصبحنا اليوم في بلدان الديمقراطية والحرية، لقد بتنا نتلذذ بلسعات الموت البطيء القاتلة، كما تتلذذ القطة بطعم المبردعندما تلحسه ، ولكنها لا تدرك بأن اللذة تأتيها من الدم الذي ينزف من لسانها، ولا نشعر بخطورة اللسعات لأننا نفتقر الى الوعي القومي والأيمان المسيحي الحقيقي، نعم أبينا فقد تطورنا مع الزمن، وأصبحنا نتسابق الغربيين في تطورنا، فنحن اليوم حتى الحقوق القومية نتناولها بالشوكة والسكين، أخشى أن يأتي يوماً أبينا ويحل محل دعواتكم لنا، رجاءً منا أن نترككم وشأنكم، فإذا بقينا على هذه الحال، لا تدعونا من الآن فصاعداً يا أبينا، ولا تعتمد علينا، إذا بقينا على هذه الحال! فقط سأرجوك أن تذكرنا في صلواتك ، في قداس “جمعة الموتى” من كل عام ، لأننا سنغدوا أمواتاً يتنفسون، يلفضنا الزمان على هامش التاريخ.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.