بقلم الأستاذ المساعد الدكتورصلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
أوضاع عبيد المعابد في بابل القديمة
03/ 11 / 2018
http://nala4u.com
شكل مبكر لطبعة ختم أسطواني من موقع اوروك (الوركاء حاليا) عثر عليه في بابل ويعود إلى النصف الثاني من الالفية الرابعة ق.م، تمثل أسري الحرب، ويلاحظ طرق تقيد الأسرى، في يسار الختم حارس يحمل عصا للضرب، بينما يقف الحاكم السومري يحمل رمحا اتجاهه نحو الأسفل لبيان انتهاء الحرب (لو كان رأس الرمح إلى الأعلى فهو اعلان الحرب)، ويقف أمامه أسير في حالة توسل وطلب الرحمة.
كان المعبد البابلي (اشهر معابد بابل معبد الإله مردوخ وزوجته الإلهة صربانيتم (Sarpanitum) ويدعى ايساكيلا (Esagila) أو(الايساك إيلا) (è-sag-ila) (معنى الاسم البيت العالي ويقع على طريق شارع الموكب بالقرب من برج بابل)، وفي بابل أيضا معبد ازيدا الخاص بالإله نابو، وهناك معابد أخرى في المدن التابعة لبابل مثل اوروك، وسـﭙار، ولگش ..الخ) يمتلك ثروة هائلة تحت تصرفه، ويشكل بالفعل أغنى وحدة زراعية، وصناعية، وتجارية، ومالية داخل المجتمع البابلي، واعتبر شركة جيدة التنظيم وذات إدارة فعالة تتحكم في مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وكميات الهائلة من المواد الخام، وقطعان كثيرة من الأبقار والأغنام، وكميات كبيرة من المعادن الثمينة، بالإضافة إلى عدد كبير من العبيد اعتبروا مثل الحيوانات الأليفة، باختصار: كانت المعابد البابلية أكبر مالك للأراضي، وأكبر مركز صناعي، وأغنى المصارف المالية، وأكبر عددا من حيث العبيد من أي مدينة أخرى في الشرق الأدنى القديم، فبالنسبة للنشاط الزراعي تم تقسيم الأملاك الزراعية إلى فئتين: الأولى الأراضي الزراعية لغرض الاستهلاك الخاص لتجهيز العبيد والطبقات الدنيا من الموظفين الاحرار العاملين جميعا في المعبد، وثانيا توزيع الأراضي الزراعية الأخرى على المزارعين المستأجرين الذين يحصلون على البذور من مخزن المعبد وعلى الحيوانات (خاصة الثيران لغرض حراثة الأرض) والأدوات الزراعية لتلبية احتياجاتهم اثناء الموسم الزراعي بالمقابل يدفع المستأجرين حصة من الإنتاج الزراعي وحسب الاتفاق مع المعبد، أما المواد الخام فقد استلمت على شكل أعشار، أو مستحقات، أو هدايا، وما إلى ذلك، فإنها تحول إلى بضائع مصنعة في مصانع داخل المعابد والتي تدار من قبل العمال الاحرار والعبيد، وتلك السلع المنزلية تلبي حاجات المعبد ويتم بيع الفائض في سوق بابل والمدن الأخرى، كما استخدمت المعادن الثمينة المتراكمة في مخازن المعابد كوسيلة للتبادل التجاري بين بابل والدول الأخرى، أو لمنح القروض للأفراد وبفائدة عالية، وهكذا، فإن المعبد لم يكن ينتج للاستهلاك الخاص به فقط، ولكن أيضا لغزو السوق والاتجار كما هو في المنتجات الزراعية، أو كمقرض للأموال، وهكذا ما قيل حول الثروة والقوة الاقتصادية للمعابد في العهد البابلي القديم كان صحيحا، ولكنها أقل ثروة في معابد العهد البابلي الحديث والعهد الآشوري الحديث، وحتى المعابد السورية، والفلسطينية، لأن مصادرنا حول سوريا-وفلسطين ضئيلة، ومع ذلك تشير الوثائق المتاحة إلى أن المعابد هناك لعبت الدور نفسه الذي لعبته المعابد في العهد البابلي القديم، فعلى
سبيل المثال شارك المعبد في مدينة أوغاريت، وهي ميناء كبير ومدينة تجارية لها نشاط تجاري دولي آنذاك واعتبرت مركز تجاري مهم في شرق البحر المتوسط، نجد في رسالة أرسلها ربي-ادد ملك مملكة جوبلا (Gubla) في سوريا إلى امنحتب الثالث فرعون مصر وهي أحدى رسائل تل العمارنة: (استدعاء القافلة إلى المعبد، لأن التجارة ملك للمعبد)، وفي رسالة أخرى نجد إشارة التالية إلى المعابد: (هناك الكثير من الفضة والذهب في جوبلا (Gubla) وفي بيت الآلهة هناك كل شيء وبكميات كبيرة)، وإذا كانت ثروة المعابد كبيرة ومصادرها معروفة يبقى ما هي مصادر العبيد في معابد بابل؟ يمكن القول هناك مصدرين رئيسيين:
1- أحدهما أسرى الحرب، وثانيا وقف من قبل الأفراد، ففي الحالة الأولى مصدرها غنائم الحرب التي يقدمها الملك إلى الآلهة، وكانت حصة الإله في الانتصار العسكري على العدو هي الحصول على الأسرى، فمثلا رموش (Rimush) (2315-2306) ق.م الملك الأكدي وهو خليفة سرجون مؤسس الدولة الأكدية، قدم للإله إنليل بعد إخضاعه مملكة عيلام (في إيران)، ومملكة باراكشي (Barakaši) (في ايران ضمن جبال زاكروس)، (30) منه من الذهب، و (3600) منه من النحاس، و (6) عبيد من الذكور والإناث، كما قدم بوزور-شوشيناك (Puzur-Shushinak)، كاهن وحاكم سوسة عاصمة عيلام (عندما يمارس الحاكم منصب الكاهن الأعظم إلى جانب منصبه السياسي يطلق عليه بالسومري ensi) إلى معبد الإله شوشيناك (كبير آلهة عيلام) من بين الأشياء التي اهداها، رموز دينية مصنوعة من الفضة والذهب، وخنجر واحد طويل، وفأس واحدة كبيرة، وعدد من الأسرى، كما ولدينا وثيقة مؤرخة تعود لعهد أور-نيسو (Ur-Nesu) (2350) ق.م إنسي اوما (موقع أم العقارب حاليا) (كان معاصرا لحكم أور-لوما الأول حاكم لگش)، سجل في نص له تقديم (172) عبد من الذكور والإناث وهم جزء من غنائم الحرب إلى معبد الإله شارا (arašd) (إله الحرب) في مدينة شاري- فوما Shari-phumma)) (ربما قريبة من اوما)، وفي فترة حكم حمورابي خصص الملك ريم- أنوم (Rim-Anum) حاكم اوروك التابعة لبابل أسير حرب واحد إلى معبد رام-مانوم (Ram-manum) (في الاساطير البابلية-الاشورية وصف الإله مانو بأنه (مانو العظيم) وهو الروح التي تشرف على الاقدار)، أن تقديم أسرى الحرب للمعابد سادت طوال تاريخ بابل الطويل، فقد قدم نبونائيد (Nabonidus) (556-539) ق.م ملك بابل وفي مرة واحدة (2850) سجين حرب إلى معابد الآلهة بيل، ونابو، ونركال، كذلك استفادت المعابد الآشورية من الانتصارات التي تحققت في الحروب الكثيرة التي خاضها الملوك الآشوريون المتأخرين، فقد تبرعوا بأعداد كبيرة من الأسرى بعد كل حرب انتصروا فيها، كما تمتلك المعابد النوزية (Nuzian) (نسبة إلى نوزي في مملكة ارابخا كركوك الحالية واصولهم حورية) أعدادا كبيرة من العبيد، تذكر وثيقة واحدة تقديم (224) عبد إلى معبد مدينة تورشا (Tursha) (تل ماحوز Mahuz القريب من الزاب الاسفل).
2- كرس الملوك والمسؤولين الكبار في الدولة والأفراد الاحرار في المجتمع العبيد للمعبد على أمل الحصول على رضى الآلهة، فمثلا أماتار-سيرسيرا Amattar-sirsirra)) ابنة اوروكاجينا (Urukagina)، انسي لگش، اهدت لمعبد للإله ميساندو(Mesandu) ( يوصف هذا الإله بانهg šá-lu-Mesandud (ميساندو الذي يهب الحماية والصحة) ثمانية عبيد ذكور وثلاث نساء أماء من أجل أن يمدها الإله بعمرطويل، أما الملك مانشتوسو (Manishtushu) (2306-2291) ق.م، الحاكم الثالث للسلالة الأكدية، أظهر تفانيه للإلهة نارودي (Narudi) (روح أكدية وصفت(سيدة الآلهة العظيمة) وقد وضعت تماثيلها في المنازل لدرء الأشرار) بتكريس أحد عبيده في معبدها، ونفس الحالة إيأناتم (Eannatum) (حفيد الملك أور-نانشة) إنسي لگش اهدى عدد من العبيد لمعبد المدينة، على أية حال غالباً ما يتم ذكر المهمة التي يقوم بها العبد في المعبد فتذكر العبارة الأكدية (أنا كيسلوتيم أدن) (ana kisallutim iddin) بمعنى ذكر العمل الذي يؤديه العبد، فمن الأعمال التي ذكرت عند منح العبيد: من أجل تطهير ساحة المعبد [اعطي هذا العبد]، وهناك وثائق تنص على إهداء العبيد وهم الأطفال الذين ولدوا في مدينة بابل وتم منحهم للمعابد وهم أكثر عددا في العهد البابلي الحديث منه في العهد
البابلي القديم، فهناك جزء من وثيقة فيها تلف وغير مؤرخة حول (28) شخصا كانوا قد كرسهم آباؤهم كعبيد للمعبد أو ما يعرف بالأكدية سيرقوتو(sirqutu) في مدينة اوروك (بالتوراة إريش Erech حاليا موقع الوركاء) (يعرف سيرقوتو بانهم مرتبطون بالآلهة البابلية يؤدون الاعمال الخدمية في المعبد والكثير منهم اطفال منحوا للمعابد من قبل الإباء أو عبيد الامراء، وبسبب اتساع الأراضي الزراعية في المعبد فان سيرقوتو يشكلون زيادة عدد العمال للعمل في الزراعة)، وهناك نص وثيقة لشخص يدعى أرديا (Ardia) كرس عبده ليكون (سيرقوتو) لمعبد اوروك، أما الأمير ننورتا-أخ-ادين (Ninurta-aḫ-iddin) فقد قدم خمسة عبيد ذكور لمعبد عشتار، وهكذا غالباً ما يعطي رجل عبده للمعبد على شرط أن تبدأ مدة الخدمة الفعلية بعد وفاته، مثل نابو-آخي-بوليت ( Nabu-aḫḫe-bullit) وزوجته بولتا (Bulta) كرسا (وفق ارادتهم الحرة) عبدهم آخ-إدين (Aḫ-iddin) لمعبد عشتار من أجل تطول اعمارهم، ولكنهم حددوا بأن تبدأ خدمته (بعد وفاتهما)، وفي خلال الحقبة السلوقية، قام اليوناني، نيكانور (Nikanor) ابن ديموقراتي (Demokrate)، بإعطاء فتاة (أمة) عمرها خمسة سنوات لمعبد آلهة اوروك (الوركاء)، ولابد أن تكون عملية منح العبيد للمعابد شائعة في بلاد أشور أيضا كما كانت في بلاد بابل المجاورة لها، ففي وثيقة من العهد الآشوري الاخير، تم تسجيل أربعة أشخاص وهبوا عبداً واحداً لمعبد الإله نينورتا.
3- أما المصدر الثالث للعبيد في المعبد فهم الأطفال المولودين من افراد احرار، مثل الأيتام الذين ليس لديهم أحد يرعاهم، أو أطفال الفقراء الذين لا يتمكن آباؤهم من إعالتهم، وهؤلاء يصبحون رقيق، ففي وثيقة مؤرخة من العهد البابلي القديم، نجد عبد في المعبد (warad, ekallim) كان قد أرسل ليخدم في المعبد عندما كان طفلاً، قدم طلبا يطلب عتقه على أساس أنه وجد وثيقة في أرشيف المعبد تسجل حقيقة بأن والده كان ضابطا في الدولة البابلية ويمتلك ابيه أراضي، في الحقيقة هذه الوثيقة ليست مؤكدة، لأن العبد قام بنفسه بالبحث في سجلات المعبد واكتشف بان والده يمتلك الأراضي، ربما عندما توفي والده قام أشخاص آخرون بطرده من ممتلكاته، وبما أنه بلا أب وبلا مأوى، فقد أرسلته سلطات المدينة أو القصر الملكي إلى المعبد، وهو يطالب بحريته، بالطبع من الصعب بناء رأي واضح على أساس وثيقة واحدة (مشوهة جزئياً)، ولكن لدينا وثيقة كاملة ومفيدة للغاية وتعود لعهد نبونائيد ملك بابل تدعم هذا التفسير، ولكن هذه المرة حالة أرملة أنقذت طفليها وقت المجاعة وقدمتهم ليكونوا عبيد في المعبد.
ما نعرفه حول تنظيم عبيد المعابد البابلية القديمة قليل جداً، لأن وثائق المعابد الكثيرة وتشير فقط إلى الحصص الغذائية الممنوحة للعبيد العاملين في أراضي المعبد، ومصائد الأسماك، وورشات النسيج وما إلى ذلك، ومع ذلك، وقد ناقش الباحث (Dougherty) مراتب سيرقوتو (sirqutu) في معبد عشتار في اوروك (الوركاء) في العهد البابلي الحديث، وأوضح بان العلامة المميزة سيرقوتو (عبيد المعبد) هي النجمة باعتبارهم ملك للآلهة، أو رمز الإلهة عشتار، أو وشم ينقش على رسغ كل من الذكور والإناث، وفي حالة عدم وجود عمل لهم في المعبد لكثرتهم عندها يتم ارسالهم للعمل كأفراد في القطاع الخاص، وفي بعض الأحيان كانت سلطات المدينة أو القصر يطلبونهم ويتم تكليفهم بأعمال شتى، ولذا فهم يؤدون مهام مختلفة في الدولة، ويقيمون في مساكن خاصة، ويشرف على عملهم (رئيس سيرقو) (sirqu)، ويمكن أن يتزوج سيرقو من شخص حر، ولكن الأطفال المولودين من هذا الزواج، بغض النظر عما إذا كان الأب أو الأم سيرقو، فانهم ينتمون بشكل قانوني إلى المعبد وكانوا يعتبرون أعضاء في هذا النظام، وبغض النظر عن المكان الذي جاءوا منه أصلاً، سواء كانوا أسرى حرب، أو اشخاص عجزوا عن دفع الديون المترتبة عليهم فخضعوا للعبودية، أو حتى الذين ولدوا في العبودية، يمكنهم أن يحرروا أنفسهم من الرق بثلاث وسائل: أولا بإمكانهم أن يشتروا حريتهم، ثانيا يتم دفع فدية من قبل ذويهم، ثالثا يمكن تبنيهم من قبل سيدهم، ولكن حتى هذه الحلول الثلاث لا تنطبق على عبيد المعابد فهي ممنوعة، وفي حالة الأطفال الذين ولدوا من زواج بين سيرقو وامرأة حرة، أو بين انثى سيرقو
ورجل حر، طبقاً لقانون حمورابي فإن الأطفال المولودين من زواج بين امرأة حرة وعبد، أو بين رجل حر وأمة فأولادهم أحرار، لكن هذه القوانين لا تنطبق على أطفال السيرقوتو من كلا الجنسين، حتى الجيل الثالث من سيرقو الذي تزوج امرأة حرة كان يطالب به المعبد قانونيا، إن المعاملة التي يحصل عليها عبيد المعبد بحكم طبيعة تنظيم المعبد، كانت أشد وأدق واقسى من العبيد الذين يملكهم أشخاص عاديون، والمعروف عدد العبيد في منزل خاص أو في ورشة صناعية خاصة صغيرا، ونتيجة لذلك عمل السيد والعبد كتفا إلى كتف، وغالبا ما كان يعامل هذا الأخير باعتباره أحد افراد الأسرة، وهناك حالة أخرى فقد تم إيواء العبيد في أحياء منفصلة، مقسمة إلى جماعات، وعند خروجهم لأداء المهام الشاقة كانوا تحت إشراف صارم من المراقبين، فكل تحركاتهم تخضع لسيطرة صارمة، وأي انتهاكات مهما كان نوعها فأن العقوبة تكون شديدة، ولذلك سوء المعاملة أدت إلى هروب العدد الهائل من عبيد المعابد للتخلص من أوضاعهم السيئة، وإذا كان عدد العبيد في المعابد البابلية كبيرا جدا، مع هذا يجب عدم المبالغة في أهميتهم في اقتصاد المعبد، فقد اشتغلوا في فرعين رئيسيين، هما الزراعة والصناعة، وكان المعبد يستخدم أيضا في الغالب اشخاص احرار وليسوا عبيد، فقد كانت الأراضي تزرع من قبل مستأجرين احراركما اسلفنا، ويعمل الحرفيون الاحرار في المتاجر، بينما يعمل العبيد في الحدائق، وفي الحقول، في درس الحبوب، وفي مصانع الجعة، وفي المخابز، وفي جميع أنواع الأعمال الوضيعة، وهناك عدد قليل جدا واغلبهم من النساء يعملن في صناعة النسيج، وفي العهد البابلي الحديث زاد عدد العبيد الذين يتصفون بالمهارة والخبرة في إدارة الملكية الخاصة بشكل كبير قياسا عن الفترات السابقة، وكانت الغالبية العظمى من عبيد المعابد يعملون في المهام اليدوية، لكن البعض منهم إما كانوا من الحرفيين المهرة قبل دخولهم المعبد أو كانوا يعملون في التجارة، فمنهم من مارس التجارة، وآخرين خبازين، وصغار المزارعين، وصائغ الذهب، ونساجين، ولدينا وثيقة واحدة مؤرخة من عهد كورش (Cyrus) الكبير مؤسس الدولة الاخمينية في إيران، نعلم بأن رجل وزوجته أعطوا عبدهم الصغير إلى حرفي خبير بالأصباغ ولمدة ست سنوات ليتعلم هذه الحرفة، وبعد ذلك سيقدم هبة لمعبد شماش.