بقلم شذى توما مرقوس
ــ قِصَّة قَصِيرَة ــ الحُبُّ في بَقِيَّتِهِ …….
02 / 09 / 2018
http://nala4u.com
…… كانَ الحُبُّ في أَوْجِهِ …. كانَ ……
والآن ! في بَقِيَّتهِ إِنْ تَبقَّى مِنْهُ شَيْء …. ولكِنْ وكما يَبْدو لَمْ يَتَبقَّ مِنْه ولا قَيْد نُتْفَة …..
هذا الَّذِي أَحبَّتْهُ يَوْماً مِنْ كُلِّ أَعْماقِها ، وحُبِّها لَهُ تَغلْغلَ في طِفْلِهما الرائع المَلاك ……
والمَلاك اليَوْم يَبْكي ويُطالِبُها بِما تُلبِيهِ لَهُ مُرْغَمة ، إِنَّهُ صَغِيرٌ بَرِيء لا يَفْهم إِنَّ ما ذَهبَ لَنْ يَعودَ أَبَداً ، وإِنَّها لا يَحِقُّ لَها أَنْ تُطالِبَ والدَهُ بِما كانَ يَحِقُّ لَها سَابِقاً ، وأَيْضاً والدَهُ فَقَدَ حقَّهُ بِمُطالَبَتِها بِأَيّ أَمْرٍ كانَ مِنْ حقِّهِ سَابِقاً ، لكِنْ ؛ كيْفَ لِطِفْلٍ صَغِيرٍ أَنْ يَفْهمَ كُلّ هذَا ، عالَمٌ الكِبَار صَعْبٌ ومُعقَّد ، وهو لا يَرَى فيهما غَيْر والدَيه لا أَكْثَر ……
كمْ تَتَوجَّسُ مِمَّا سيَكون ، وكمْ تَخافُ أَنْ يَجْرَحَها والدَهُ القَاسي ، فهي تَعْرِفُ نَذَالَة أَفْعالِهِ وخِسْتَها الَّتِي لا تُبَارى ……..
صارَ طِفْلها يَلُحُّ علَيْها :
ــ اتَصلي بِأَبي …. دعِيهِ يَأْتي لِيَأْخُذَنا إِلى المَنْزِل … أُرِيدُ والدي …. لا أُرِيدُ العَوْدَة بِالحافِلَة .
أَجابَتْهُ بِرفْقٍ :
ــ يا وَلَدي ، إِنَّهُ في العمَل ، لا يُمْكِنُ لَهُ ذَلِك ، سنَسْتَقِلُ الحافِلَة ولَنْ يَطُولَ الأَمْر حَتَّى نَكونَ في المَنْزِل .
صَرَخَ بِعِنَادِ طِفْلٍ يَبْغي دَلالَ أُمِّهِ :
ــ لا …. لا …. أَنا أُرِيدُ بابا …..
وظَلَّ يَدُقُّ الأَرْض َبِقَدَميهِ الصَغِيرَتين الغَضَتين عِنَاداً .
نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِحُبٍّ وسَاوَرَها الضَحِك وهي تَرَى أَقْدَامَهُ الصَغِيرَة الغَضَّة تَدُقُّ الأَرْضَ ، وصُرَاخَهُ يَعْلو ، وقَالَتْ في سِرِّها :
لَنْ تَفْهمَ أَبَداً يَا صَغِيرِي الأَمْر ، إِنَّهُ أَيْضاً كبِيرٌ علَيْك .
كانَ المكانُ غَرِيباً عَلَيْها ، فهي تَعود مِنْهُ لِلمَنْزِل لأَوَّلِ مَرَّة ، فاسْتَوْقَفَت أَحد المَارَّة وسَأَلَتْهُ أَيْنَ لَها أَنْ تَتَجِه نَحْوَ مَحَطَّةِ انْتِظَارِ الحافِلَة ، فدَلَّها علَيْها ، وصُرَاخ طِفْلِها يَعْلُو :
ــ أُرِيدُ بابا … أُرِيدُ بابا ….
فضُول المَارَّةِ أَزْعجَها فلَرُبَّما يَحْسَبُونَها قَدْ اخْتَطَفَتْ هذَا الطِفْل ويُرِيدُ الخلاصَ مِنْها طالِبَاً النَجْدَة ، أَحدُ المَارَّة قَتَلَهُ الفضُول فسَأَلَها :
ــ ما بِهِ …… هَلْ هذَا طِفْلكِ ؟
ثُمَّ اسْتَدارَ نَحْوَ الطِفْل وسَأَلَهُ :
ــ هَلْ هذِهِ ماما ؟
أَجابَهُ الطِفْل غَاضِباً مِنْ السُؤال وبِمُتَسَعِ عَيْنَيهِ العجَب :
ــ طَبْعاً هذِهِ ماما ، أَلا تَعْرِف ، وأُرِيدُ أَنْ يَأْتي أَبي لِيَأْخُذَنا لِلمَنْزِل .
لَمْ تَتَمالكْ نَفْسَها فانْفَجَرَتْ ضَاحِكة وهي تَرَى طِفْلَها وقَدْ عَقَدَ حاجِبيهِ غَضَباً رَامِقاً الرَجُلَ المَسْكين بِنَظَراتٍ حادَّة لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إِنَّ هذِهِ المَرْأَة هي أُمَّهُ ، وقَالَتْ لَهُ وهي تُحاوِلُ كبْتَ ضَحِكها :
ــ يا ولَدِي كُفَّ عَنِ الصُرَاخ .
ضَحِكَ الرَجُل وتَابَعَ سَيْرَهُ وهو يَقُول :
ــ رُبَّما والدكَ مَشْغُولٌ بِأمُورٍ أُخْرَى .
خَافَتْ الضَجَّة الَّتِي يَفْعلَها طِفْلُها ، وكانَتْ مُمْسِكة بِيَدِهِ تُحاوِلُ الاتِجاه إِلى بَابِ الخرُوجِ ، لكِنَّ الصَغِير ما هدِأَ وكأَنَّ شَيْطانَ والدَهُ قَدْ تَلبَّسَهُ ، فتَوَقَّفَتْ وأَخْرَجَتْ هاتِفَها واتَصلَتْ بِوالدِهِ ، وكأَنَّ الطِفْلَ لَمْ يُصَدِّقْ ، فصَارَ يَجرُّ ثَوْبَ أُمِّهِ حَتَّى خُيّلَ لَها إِنَّ ثَوْبَها قَدْ نُزِعَ عَنْها راغِباً في الإِمْسَاكِ بالهاتِف لِلحدِيثِ إِلى والدِهِ فتَرَكتْهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَتْ والدَهُ إِنَّ ابْنَهُما يُثِيرُ ضَجَّةً كبِيرَة لأَجْلِ قدُومِهِ ، وما كانَ الصَغِير بِقَادِرٍ على الصَبْر فَصَرَخَ في التلِفون :
ــ بابا …. تَعال رَجاءاً …. خُذْني لِلمَنْزِل …. ماما لا تَمْلِكُ مالاً لِسَيَّارَةِ أُجْرَة ولا تَعْرِفُ الطَرِيق لِلبَيْت وتُرِيدُنا أَنْ نَعودَ بِالحافِلَة … أُرِيدُكَ أَنْ تَأْتي لِتَأْخُذَنا فاَنْتَ لديكَ سَيَّارَة ……
فطَمأَنَهُ والدَهُ قَائلاً :
ــ انْتَظِرْني أَنا قَادِم يا ولدي .
سَحَبَتْ الحقِيبَةَ بِيَدٍ وأَمْسَكتْ بِيَدِ طِفْلِها بِالأُخْرَى وسَارَتْ نَحْوَ بَابِ الخرُوجِ حَتَّى وَصَلَتْ مَحَطَّة وقُوفِ السَيَّاراتِ خَارِجاً ، فكَّرَتْ مَعَ نَفْسِها لَوْ كانَ لِطِفْلِها بَعْض الصَبْر ، ما بَالَهُ اليَوْم ولِمَاذَا لا يَهْدأ عَنْ ضَجَّتِهِ ، لَوْ كانَتْ تَمْلِكُ المَال الكافي ، لَوْ كانَ قَدْ تَبَقَّى مِنْ المَالِ بَعْضاً آخَر لاسْتَقلَتْ سَيَّارَةَ أُجْرَة بَدَلاً مِنْ الحافِلَة وتُنْقِذُ نَفْسَها مِنْ هذَا الإِحْرَاج كُلّه وهذَا المَوْقِف الَّذِي لا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ فَما أَدْرَاها بِما سيُقْدِمُ علَيْهِ مِنْ حماقَاتٍ أَوْ خُبْثٍ أَوْ سُخْف .
مَرَّ وَقْتٌ ما فإِذا بِهِ يَخْرُجُ مِنْ سَيَّارَتِهِ ويَتَجِهُ نَحْوَهُما ، احْتَضَنَ ابْنَهُ وقَبَّلَهُ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْها قَائلاً بِتَشَفٍ ظَاهِر :
ــ سأَخُذُ ابْني فَقَطْ مَعي ….. أَنْتِ لا مكانَ لكِ ، بِإِمْكانَكِ العَوْدَة لِلمَنْزِل بِالحافِلَة أَوْ بِسَيَّارَةِ أجرة ….. سيَبْقَى مَعي في مَنْزِلي بَعْضَ الوَقْت ، سآتي بِهِ إِلَيْكِ بَعْدَها .
لَمْ تَتَمالَكْ نَفْسَها ، طَفَرَتْ الدمُوعُ مِنْ عَيْنَيها ، ثُمَّ تَدارَكتْ الأَمْر وقَالَتْ لَهُ :
ــ ابْنكَ يُرِيدُ العَوْدَة مَعَكَ ولَيْسَ أَنا ، أَنا لا أَحْتَاجُك .
تَقَدَّمَ نَحْوَ السَيَّارَة يَقودُ طِفْلَهُ الَّذِي لَمْ يَهْدأْ عَنِ الاحْتِجاجِ ومُنَاداة أُمِّهِ :
ــ ماما … تَعالي … لِمَاذَا لا تَأْتين …. هَلْ ستَتَرُكيني وَحْدِي … أَنْتِ لا تُحِبّينني …تَعالي … تَعالي …. ماما ……
وصارَ يَبْكي وصَوْتَهُ يَخْفُت وهو يَبْتَعِد ….
رَفَعَتْ صَوْتَها لِيَسْمَعَها ويَطْمئِن :
ــ أُحِبُّكَ يَا وَلدِي … سأَرَاكَ في المَنْزِل يَا حبِيبي .
تَبِعَتْهُ بِضْعَ خُطُواتٍ وهو يَصْعَدُ السَيَّارَة ونَظَراتهُ مُعلَّقَة بِها ، لَمَحَتْ إِمْرَأَةً جالِسَةً في المَقْعدِ الأَمامِيّ مِنْ السَيَّارَة ، الصَدِيقَة الجدِيدَة لِوالدِهِ ………
تَأَلَّمَتْ مِنْ نَذَالَةِ تَصَرُّفِهِ مَعها حَيْثُ تَرَكها دُوْنَ طِفْلِها وجَعَلَهُ يَبْكي ، لكِنَّها واسَتْ نَفْسَها فهذِهِ لَيْسَتْ المَرَّةَ الأُولَى لِحماقَاتِهِ ولَنْ تَكونَ الأَخِيرَة ، مَسَحَتْ دمُوعَها ورَفَعتْ رَأْسَها عالياً ، وصَوَّبَتْ نَظَراتها نَحْوَ السَماءِ الرَحِبَة المَدِيدَة ، وخاطبَتْ نَفْسَها بِعِزَّةٍ وكرامَة :
لَنْ يَغْلِبَني الحُزْن ، أَنا أَقْوَى مِنْ حماقَاتِك …….
وسَارَتْ قَاصِدَةً المَحَطَّة التَالِيَة …….