بقلم شذى توما مرقوس
دَعْوَى كيْدِيَّة
ــ قِصَّة قَصِيرَة ــ
28 / 05 / 2016
http://nala4u.com
كيْداً بِها ……. أَقامَ
علَيْها الشَكْوَى في مَخْفَرِ الشُرْطَة ، بَعثَتْ المَحْكمَةُ إِلَيْها
تَسْتَدْعيها لِلتَحْقِيق في أَمْرِ الدَعْوَى ، حضُورها كانَ مُلْزِماً .
نَهَضَتْ صبَاحاً وهيَّأَتْ طِفْلَها
مَعَها ، وحِرْصاً مُضَاعفاً مِنْها دَثَّرَتْهُ بِمِعْطَفٍ سَميكٍ ، ففي
اللَيْلَةِ الماضِيَة تَسَاقَطَ الثَلْجُ بِغزَارَة ، كُلّ الطُرُقَات
مَكْسُّوَة بِطَبقَاتِ الثَلْج ومُزْلِقَة ، أَمْسَكتْ بِيَدِ طِفْلِها
وخَرَجا إِلى الطَرِيق نَحْوَ مَحَطَّة انْتِظَارِ الحافِلَة .
كانَتْ
تَتَمنَّى لَوْ اسْتَطَاعتْ أَنْ تَعْفي طِفْلَها مِنْ هذَا المِشْوار ،
لكِنْ عِنْدَ مِنْ تَسْتَأْمِنُ طِفْلَها وهي وَحيدَة هُنا في هذَا البَلَد
لا أَهْلَ لَها ولا أَصْدِقاء ، كما لا يُمْكِنها أَنْ تَتَرُكهُ وَحيداً
في المَنْزِل فهو صَغِير السِنِّ ، فَكَّرَتْ أَنَّ سيَّارَةَ أُجْرَة
خاصَّة تُقِلُها إِلى المَخْفَر هو الحلّ المُنَاسِب ، لكِنَّها لا
تَمْلِكُ المَالَ الكافِي لِتَدْفَعَ التَكالِيف فالشَهْرُ في آخِرِ
أَيَّامِهِ ولَمْ يَتَبقَّ مِنْ مالِها نُتْفَة ، ولَيْسَ مِنْ أَحَدٍ
يُعِيرها المال ، ما مِنْ سَبِيلٍ أَمَامَها غَيْر أَنْ تَنْتَظِرَ
الحافِلَة وتَأْمَل أَنْ لا تَنْتَظِرَ طَوِيلاً .
وقفَا
يَنْتَظِران ….. مَرَّتْ بِضْعُ دقَائق ثُمَّ بِضْعٌ أُخْرَى وأُخْرَى ،
لكِنْ حَتَّى مَوْعِد مَجِيءِ الحافِلَة ستَمُرَّ عشْرونَ دقِيقَة ،
والطِفْلُ في وقُوفِهِ يَصِيح :
ــ ماما …. أَنا أَتَجمَّد .
اغْرُورِقَتْ عَيْناها بالدمُوع وقَالَتْ في سِرِّها :
(
هذَا ما أَرادَهُ والِدُكَ الَّذِي لَمْ يُفكِّرْ فيكَ لَحْظَة ، رَأَى
فَقَطْ الانْتِقَام وإِظْهارَ القُدْرَةِ والسُلْطَة لأَذيَتي علَّهُ
يَسْتَحْصِلُ مِنِّي المالَ بِتَغْرِيمي ، واخْتَرَعَ أَكاذِيبَ في
دَعْواهُ ضِدِّي دُوْنَ وَخْزٍ مِنْ ضَمِير ، إِنْ كانَ لَهُ ضَمِير حيّ ،
هذَا الغَبيّ ، لَوْ يَراكَ وأَنْتَ تَتَأَلَّمُ بَرْداً ، أَبٌ أَحْمَق )
.
احْتَضَنَتْ طِفْلَها وقَبَّلَتْهُ بِحنَانٍ وهي تَقُول :
ـ بِضْعُ دقَائق أُخْرَى وستَأْتي الحافِلَةُ يَاصَغِيرِي الحبِيب .
أَخْرَجَتْ مِنْ حقِيبَةِ يَدِها قِطْعة حَلْوَى يُحِبُّها وأَعْطَتْها لَهُ :
ــ خُذْ هذِهِ ، ستَمْنَحكَ الدِفْء يَا حبِيبي .
شَغَلَتْ
قِطْعةُ الحَلْوَى الصَغِيرَ عَنْ شَكْواه مِنْ البَرْد ، لكِنَّ ذَلِكَ
لَمْ يَسْتَمِرْ إِلاَّ دقَائق مَعْدُودَة ، فعادَ يَبْكي ويَتَوسَّل :
ــ ماما …. أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ لِلمَنْزِل .
ـــ لا يُمْكِننا يَاولَدي ، يَجِبُ أَنْ نَذْهَبَ لِلمَخْفَر ، بَعْد دقَائق ستَأْتي الحافِلَة .
حَمَلَتْ
طِفْلَها إِلى صَدْرِها واحْتَضَنَتْهُ ، نَعَمْ البَرْدُ قَارِس ، هي
أَيْضاً بَدَأَ البَرْدُ يَتَغَلْغَل في أَطْرَافِها ، وفَوْقَ ذَلِكَ هي
لا تَعْرِفُ المَكانَ تَحْدِيداً ، علَيْها أَنْ تَسأَلَ وتَسْتَدِلَ على
العُنْوان الَّذِي مَعَها ……
بَعْدَ مُدَّة جاءَتْ الحافِلَة والصَبِي يَرْتَعِشُ
بَرْداً وهي أَيْضاً ، سَأَلَتْ السَائق عَنِ العُنْوان ، أَخْبَرَها في
أَيّ مَحَطَةٍ علَيْها النزُول لأَخْذِ الخَطِّ التَالِي القَاصِد إِلى
حَيْثُ تُرِيد ، قَالَتْ في نَفْسِها : ( لا أُرِيد ، لكِنَّ مُرْغَمَة )
.
فَكَّرَتْ انْتِظَارٌ آخَر
أَمَامَها وطِفْلَها ، بَدَأَ القَلقُ يُسَاوِرها علَيْهِ لا تَدْرِي كيْفَ
تَحْمِيهِ مِنْ البَرْد ، وحِيْنَ نَزَلا في المَحَطَةِ الَّتِي أَشَارَ
بِها إِلَيْها السَائق حَمَلَتْ طِفْلَها وضَمَّتْهُ إِلى صَدْرِها
وأَلْقَتْ علَيْهِ شَالَها لِمَزِيدٍ مِنْ الدِفْءِ ، خَافَتْ علَيْهِ مِنْ
البَرْد والتَجَمُّدِ والمَرَضِ والمَوْت … ارْتَعدَتْ فَرَائصُها
حِيْنَ مَرَّ بِخَاطِرِها المَوْت ، وصَارَتْ تَنْفُضُهُ عَنْ أَفْكارِها
بِشِدَّة ….. ..
لَمْ
تَعُدْ تَشْعُرُ بِأَطْرَافِها …. أُذُنَاها احْتَقَنتَا ، أَنْفَها
إِحمَّرَ ، شَفتَاها بَدَأتَا تَتَيبسان ، صَارَتْ تُحَرِّكُ أَقْدَامَها
طَلبَاً لِلدِفْءِ في مَكانِ وُقُوفِها ، تَرْفَعُ الأُولَى ثُمَّ
الثَانِيَة وهكذَا …. مَرَّتْ رُبُع سَاعة وكأَنَّها عام ، أَخِيراً
جاءَتْ الحافِلَة فصَعدَتْ إِلَيْها مَعَ طِفْلِها وسَألَتْ ثَانِيَةً
السَائق عَنِ المَحَطَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَنْزِلَ فيها فأَشَارَ
إِلَيْها بِذَلِك ، لكِنَّ المشْوار لَمْ يَنْتهِ ، فبَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ
مِنْ الحافِلَةِ علَيْها أَنْ تَمْشِي سَيْراً طَرِيقَاً جانبِياً ،
والثَلْجُ يَكْسُو الطُرُقات وهي مُزْلِقَة ……… تَأْمَلُ أَنْ لا
تَنْزَلِقَ مَعَ طِفْلِها وتَقَعُ أَرْضاً فتُصابُ هي أَوْ طِفْلَها أَوْ
كِلاهُما مَعاً بِجُرْحٍ أَوْ كسْرٍ …..
مَشَتْ
الطَرِيق بِحَذَرٍ بَالِغ ، كُلُّ خَطْوَة سَارَتْها بِحَذَرٍ ، تَارَةً
تَحْمِلُ طِفْلَها على صَدْرِها ، وتَارَةً تَمْسِكُ بِيَدِهِ تُشَجِعهُ
على خَطْوِ بِضْع خُطُوات ، شَعَرَتْ إِنَّ العالَمَ كُلَّهُ ضِدّها ….
وتَنَاثَرَتْ الدمُوعُ مِنْ عيْنِيها ، سَألَها طِفْلُها وهو يَلْمِسُ
خَدَّها بِحُنُوٍّ وحُبٍّ :
ــ ماما ، لِماذَا تَبْكين …
مَسَحَتْ دمُوعَها وقَبَّلَتْ يَدَهُ الصَغِيرَة وضَحكَتْ لَهُ تُمازِحَهُ :
ــ أَبْكي مِنْ البَرْد .
فصَدَّقَ الطِفْلُ أُمَّهُ وقالَ مُواسِياً :
ــ لا تَبْكي يا أُمّي ….. المَبْنَى سيكُونُ دافِئاً .
ضَمَّتْهُ
إِلَيْها ودَخَلَتْ مَخْفَرَ الشُرْطَة وهي تَرْتَجِفُ وطِفْلها مِنْ
البَرْد ، وهَمَسَتْ في أُذُنِهِ :
ــ لَقَدْ وَصَلْنا يَا حبِيبي …….
وأَكْمَلَتْ في سِرِّها :
( لكِنَّ والِدكَ لَنْ يَصِلَ أَبَداً …….. ) .
الأربعاء 23 / 3 / 2016 م