نبراس يخبو و نبع ينضب برحيل الكاتب والاديب عمانوئيل قيا بلو 1934 – 2012

بقلم ســامي بلّـو
alkoshbello@hotmail.com
نبراس يخبو و نبع ينضب
برحيل الكاتب والاديب عمانوئيل قيا بلو1934 – 2012

29/ 04 / 2015
http://nala4u.com

رجل تصدى لموجات المرض التي عصفت بصحته، ولم يستسلم. وتحدى بارادة صلبة خريف عمره المبكر الذي اثقلته وصفات الحكماء، وما عرف اليأس الى قلبه طريقا. هذا هو الاستاذ الكاتب والاديب والخطاط عمانوئيل بلو، مدفوعا بحبه لاهله، وعشقه لبلدته القوش، وتعلقه بذلك الارث المجيد الذي تسلمناه من ابائنا، بَدأَ بلغتنا السريانية العذبة ومرورا بموروثنا الفلكلوري الجميل، واثباتا لوجودنا كشعب وامة اصيلة لبلاد بين النهرين، كل هذه الاسباب مجتمعة ومنفردة كانت وراء العطاء الوفير لرابي عمانوئيل بلو الذي لم يشح ولم يتوقف طوال ايام حياته، وبرغم اعتلال صحته، فان الابتسامة لم تفارق محياه، لانه كان مؤمنا بالاهداف النبيلة التي من اجلها يعمل ويعطي. انسان اجتماعي اليف الطباع، صديق صدوق مع الكبير والصغير، هادئ في كلامه ونقاشه، يُمَتِّع نديمه بابتسامة، وطرفة لطيفة وغالبا ما تكون من تراث القوش، مما سمعه من الاقدمين وما يختزنه في ذاكرته من هذا التراث، ومن سجاياه الاخرى أن يستمع الى مُحَدِّثهُ باهتمام بالغ حتى النهاية دون ان يقاطعه، ومن ثم يبدي رأيه بأدب جم، يحترم اراء الاخرين وإن اختلف معهم، والحوار بالنسبة لرابي عمانوئيل الحوار معركة ينتصر فيها احد الطرفين، بقدر ما هو أُسلوب حضاري لتبادل وجهات النظر بين المتحاورين للافادة والاستفادة، بهذه الخصال العالية كان يفرض على الاخر احترامه. كان الحوار معه محببا لدي، وقلما زرت القوش دون ان نلتقي ونتحدث في مواضيع شتى تجمع اهتماماتنا، تاريخ بيت بلو، والقوش، ولغتنا وادبنا السرياني، وقضيتنا القومية. وفي التسعينات من القرن الماضي اصبح فضاء الحوار حول قضيتنا القومية يأخذ حيزا اكبر بوصول- ولو بصورة محدودة وسرية- “مجلة نجم بيث نهرين” التي اطلقها المركز الثقافي الاشوري في دهوك، بعد فرض شمال العراق منطقة امنة، كانت هذه المجلة قد جذبت اهتمامنا كلينا بمقالاتها الرصينة عن القضايا القومية الاشورية، هذه المقالات فتحت بيننا ابواب اوسع للنقاش، وما لم نختلف عليه في نقاشاتنا هو الانتماء القومي لالقوش سواء من قراءاتنا في كتب الاقدمين، او من مفكري وادباء القوش للعصر الحديث، وكذلك عن قناعتنا من موقع القوش وتاريخها الممتد الى العصر الاشوري. كانت الساعات الطويلة تمر على لقاءاتنا، في بيتنا او في مكتبته في القوش، دون أن نشعر بالوقت، كانت هذه اللقاءات معه من الاوقات الممتعة اثناء تواجدي في القوش العريقة، حاضرة الاله سين (سينا)، وضريح النبي ناحوم ومرقد المعلم الكبير مار ميخا نوهدرايا، ومراقد سلسلة البطاركة القديسين لكنيستنا المشرقية، ومسقط رأس رابي رابا القس اسرائيل شكوانا، وصف طويل لا ينتهي من الكتاب والادباء والخطاطين الذين اناروا مسيرتنا الثقافية السريانية، انه عبق طيِب التاريخ الذي يُعَطِّر الداخل الى القوش، يفوح في كل لحظة، من هذا الكهف أو تلك الصخرة أو ذلك الزقاق، ومن له اطلاع على تاريخ هذه البلدة لابد وأن يشعر بالخشوع كلما وطئت قدماه ارضها وتجول في ازقتها، مَن ذا ينسى تلك القنطرة الطويلة (قنطر دبي ابونا) وتلك الزاوية التي قيل لنا بانها محل جلوس البطريرك، وكم بطريركا جلس على تلك المصطبة، وكم مجمعا عقد في ذلك الديوان لشؤون الكنيسة الشرقية التي امدت الى تخوم الصين، وكم زائرا من اقاصي الشرق من اباء هذه الكنيسة أُستقبل في هذأ المكان من قبل البطريرك والاكليروس، هذه محطات مجدك يا القوش واجيالك من حقها ان تتفاخر بها ولا ترضى ان يدفن هذا المجد في مدافن التاريخ.
نتاجات الاستاذ عمانوئيل قيا بلو الادبية والفكرية كثيرة جدا، واكثر من أن تسعها هذه المقالة التي افردها لذكرى رحيله، وما نشر من نتاجاته هو جزء يسير جدا من خزين نتاجاته، واتمنى ان يسمح لي الوقت واتمكن من الاطلاع على مكتبته وتصنيف ونشر فهرس متكامل بكل ما سطره يراعه. ولا شك بان معظمنا قد قرأ له هنا وهناك سواء في المنشورات داخل الوطن اوفي مجلات المهجر، مثل مجلة حمورابي ومجلة السنبلة، وكم يؤلمنا ويحز في نفوسنا نحن اقربائه واصدقائه ان نرى ذلك السراج المنير يخبو وينطفي في هذه الايام، وان نرى ذلك اليراع يجف، وذلك العقل النير يكف عن العطاء، لقد كان نبعا لاينضب يروي حقول ادبنا السرياني وتراث القوش.
كان رابي نوئيل بلو اديب متنوع النتاج غزيره، متوزع بين كلتا اللغتين السريانية الدارجة والعربية، ما بين قصيدة شعر ومسرحية وقصة قصيرة، وعدد لا يحصى من المقالات في مواضيع ثقافية مختلفة. ومسرحياته لم تكن قصة عابرة لامتاع المشاهد، وانما كان يعالج فيها مشكلة القت بثقلها على مجتمعه أو عادات ذميمة طارئة على اهله. ومن يعرف هذا الانسان يعرف مقدار حبه اللامحدود لمسقط رأسه القوش وأهلها، ولا يستغرب القارئ ابدا، أن يكتشف بان فضاؤه غالبا ما كان محصورا في افاق القوش واهلها وحقولها، فشغفه بالقوش يتعدى كل المقاييس، ليصل الى مكامن احاسيسه ومشاعره التي كانت تعيش معه في كل لحظة وتسكن عمق اعماقه. ويمكنني القول بكل ثقة بان عمانوئيل بلو هو واحد من القلائل الذين وَثَّقوا لاحداث مهمة وقعت في القوش سواء تلك التي عاصرها او التي سمعها من كبار السن أوالتي تناقلتها الاجيال شفاها، وكان قد نشر قسم منها في كتاب تحت عنوان ” حوادث مهمة في تاريخ القوش” وبحسب علمي – مما كان يدور بيننا من حوار عندما كنا نلتقي في القوش- فان ما جمعه ووثقه من حوادث مشهورة في القوش هي اكثر بكثير مما نشره في هذا الكتيب الذي احتفظ بنسخة منه في مكتبتي هدية منه. وهو ايضا واحد من الذين كتب باسهاب عن فولكلور بلدته القوش، كان حريصا دائما على ان يحصل على التفاصيل الدقيقة لكل حدث من تراث هذه البلدة إن لم يكن قد عاصره شخصيا، وكان مستمعا جيدا لمُحَدِّثيه، وخاصة عندما كان المتكلم يقص عليه حدثا ذو علاقة بالتراث، وكأني به جالس في هيكل العبادة يستمع الى نصوص مقدسة.
كثيرة هي ذكرياتي عن ومع ابن عمي ومعلمي وصديقي عمانوئيل بلو، وتمتد الى فترة صباي، في تلك المرحلة من عمري كنت دائم النظر الى تلك الصورة الكبيرة لشجرة العائلة (بلو) المعلقة في بيت جدي، لانها لم تكن شيئا مألوفا في بيوت القوش، وحسب ما تسعفني الذاكرة بما سمعته من جدي، فانها كانت قد رُسِمت من قبل الراهب (القس) داديشوع (يعني حبيب او صديق يسوع)، في الفترة التي كان القس (المطران) اسطيفان بلو رئيسا عاما لاديرة الكنيسة الكلدانية، كنت ولازلت مبهورا بتلك اللوحة لعدة اسباب، اهمها ذلك الفن الرائع وتلك الالوان الهادئة الجميلة، التي ظلت تقاوم الرطوبة ودخان الموقد ودخان سكاير جدي وضيوفه الكُثر ايام الشتاء ولسنين طويلة وما تبدلت، وذلك التصميم الذي ابدعته انامل هذا الفنان، كانت اغصان الشجرة ترمز وتحوي اسماء اجيال الذكور من العائلة، أما اوراقها فكانت ترمز الى الاناث، كنت اقف فوق السرير وامد يدي، وامرر اصبعي فوق الاغصان، ابدأ من اسمي الذي كان في أعلى الشجرة حينئد، نزولا الى جدنا الاعلى ياقو بلو في اسفل جذع تلك الشجرة التي نمت وارفة وامتدت جذورها في اعماق ارض القوش، لا بل امتدت الى أُورمي (أُورميا في ايران) واقوم بتهجئة الاسماء المكتوبة بالسريانية، وتنتابني موجة من النشوة والانشراح عندما اكمل قراءة جميع الاسماء. بقيت تلك الشجرة على حالها، والعائلة تنمو وتتكاثر، حتى نهاية السبعينات حين فاجأني رابي عمانوئيل بنسخة محدثة من شجرة العائلة ولكن بتصميم مختلف، ومرت فترة قبل ان يتسنى لي النظر الى الشجرة الجديدة والتدقيق بالمعلومات التي تتضمنها، وأدهشني ان ارى بانها تحوي على اسماء الزوجات لكل من واحد من ذكور العائلة واسماء عوائلهن، وبقدر استغرابي كانت فرحتي، فاسم امي الان موجود ايضا في شجرة العائلة، وتلهفت للذهاب الى القوش حينئذ، يدفعني الفضول لاعلم كيف تمكن عمانوئيل الحصول على هذه المعلومات التي مر عليها اكثر من ثلاثمائة سنة. عندما التقينا قفزت بسؤالي له وبدون مقدمات، فقام الى مكتبته، وعاد الى مقعده بعد قليل وبيده مجموعة اوراق، لم يكن على نوئيل البحث طويلا بين اوراقه، فكل شئ مصنف ومنظم ويعلم اين يجده، كل ورقة لها موقعها في مكتبته، واعتقد بان هذه صفة متجذرة في العائلة، هكذا وجدت جدي وابي ايضا. مد لي يده وناولني الاوراق وقال بانها لي ويمكنني الاحتفاظ بها، كانت الكتابة سريانية، وبدأت اقلبها وامر على عنواينها الرئيسية، فعلمت انها تحوي معلومات مفصلة عن عائلتنا، وكررت سؤالي كيف تمكن من جمع هذه المعلومات ومن اين؟ فارتسمت على وجهه تلك الابتسامة التي الفتها فيه كلما تمكن ان يحل لغزا لجليسه، فاجابني: انها من عمي ججو جدك وهي بخط يده، اعطاها لي في احدى زياراتي له عندما كنت احاول ان اجمع معلومات اكثر تفصيلا عن الاباء والاجداد. كان رابي نوئيل يُجدد معلومات شجرة العائلة كل عشر سنوات وفي بداية كل عقد، ويضيف اليها اسماء الابناء الجدد، ولم ينسى ابدا ان يرسل لي نسخة منها، ولكن اخر تحديث لدي هو لسنة 2000 ولا اعلم إن كان هذا الرجل الهمام قد تمكن من تجديدها لسنة 2010 أَم ان المرض لم يمهله. ولا اعلم ان كانت هذه الشجرة ستُجَدد بعد رحيله ام ستبقى على حالها بعد ان رحل من بيننا رحلته الابدية.
امتازت كتابات وقصائد رابي عمانوئيل بالبساطة وبالتلقائية، وابتعد كثيرا عن الغموض والرموز في اختيار كلماته، لتصل الفكرة الى القارئ او المتلقي مباشرة. ومن الملاحظ بان موضوع الهجرة والتغرب شغل حيزا من كتاباته في العقد الاخير من عمره، وبقدر ما كانت تزعجه فكرة الهجرة، كان قدره ان يعيش بقية عمره مهاجرا في مجتمع غريب عنه، وبعيدا عن مسقط رأسه الذي تعلق به مثلما يتعلق الطفل بامه. وانعكست هذه الاحاسيس في كتاباته، فهو يقول في قصيدة له بالسريانية بعنوان ” مهما ابتعدت عن وطنك” التي نُشِرَت في مجلة السنبلة سنة 2002 ما ترجمته ” تَركَ وطنه مُرغما … وخرج من بيته والالم يعصرقلبه ……… تنهدات من الاعماق، ودموع تنهمر … وصوت النحيب ارتفع برحيله” . ليس صعبا على القارئ ان يعي بان كاتبنا يتحدث عن نفسه في هذا البيت، ويعبر عن احاسيسه ومشاعره الخاصة عندما اضطر الى مغادرة ارض الوطن قاصدا افاق الغربة البعيدة. وفي قصيدة اخرى القاها في احد مهرجانات القوش الثقافية في نهاية تسعينات القرن الماضي- ليس لدي نسخة منها- ولكني اتذكر محتواها، وكيف كان يمني نفسه فيها ان يكون مقامه على ارض الوطن يوم الرحيل الاخير، وأن يكون مثواه بين اباءه واجداده، ولكن هيهات ان يتحقق ما يتمناه الانسان، فقد عاش كاتبنا في الغربة وكانت مثواه الاخير، بعيدا… بعيدا عن الرابية المقدسة التي ضمت اجداده منذ أَن كان التاريخ. أُرقد بسلام يا ابن القوش البار، فالغايات لا ندركها بالتمني، وستبقى ذكراك العطرة امانة لدينا تسكننا، ومن بعدنا نسلمها للاجيال القادمة.

ســامي بلّـو

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, ثقافة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.