بقلم نشوان جورج
رغم نزيف دمائهم من شابور الثاني حتى صدد السورية.. المسيحيون باقون
17 / 11 / 2013
www.nala4u.com
دخلت المسيحية بلاد ما بين النهرين منذ نهايات القرن الميلادي الاول وبدايات القرن الميلادي الثاني، وكثيرة هي الوثائق التي تؤكد ذلك، وتنسب التبشير الى أدي وأجي وماري الذين يُعتبرون من الاوائل الذين بشروا في المشرق.
اخذت المسيحية بالانتشار في شتى انحاء مابين النهرين، حتى بلغت البلاد البابلية الجنوبية في عهد السلالة الارشاقية التي اطاح بها الساسانيون الذين حكموا البلاد اكثر من اربعة قرون اضطهدوا فيها المسيحيين واقترفوا ضدهم التعذيب والعقوبات بسبب دينهم ومعتقدهم.
ومن اكبر الاضطهادات المعروفة هو الاضطهاد الاربعيني الذي شنه الملك الساساني شابور الثاني عندما فرض في مرسومٍ اصدره ضرائب باهظة على المسيحيين بنوع خاص، بحجة دعم مجهوده الحربي ضد الرومان. ولما لم يستطع المسيحيون دفع هذه الضرائب، تعرضوا للاضطهاد والتنكيل، وذلك عام (341م). وكان مار شمعون برصباعي ورفاقه المائة والثلاثة في الدفعة الاولى من الذين راحوا ضحية هذا الاضطهاد الهائل. فقد القي القبض عليهم وزُج بهم في غياهب السجون.
اما عدد الضحايا نتيجة هذا الاضطهاد، فلا احد يعرفه بالتأكيد فهناك من المؤرخين من يقول ان الذين عرفت اسماؤهم وحدهم يربو عددهم على (16000) شهيد. ويقول المسعودي، في كتابه التنبيه والإشراف ان عددهم بلغ (200) الف شهيد.
لا تخلف الحروب سوى الكراهية .. بديهية عرفتها كل شعوب الأرض على امتداد التاريخ.. ولم يعرف التاريخ المعاصر بلداً كالعراق شهد ثلاث حروب وحصاراً في أقل من ربع قرن. لكنه مع ذلك قاوم الكراهية والعنف، وبقي شعباً متعايشاً على الرغم من الدمار والحروب والقمع.
وقد بدأت سلسلة من المواجهات المناطقية المسلحة وراحت السيارات المفخخة تحصد ارواح العراقيين بلا تمييز عندما تفجرت المواجهات الطائفية بعد عام 2004 واستفاق الجميع على كابوس لا ينتهي من الجثث مقطوعة الرؤوس في قتل واضح على الهوية، فكان التهجير هو الثمرة المرة لذلك الانفلات الامني الذي اطفأ مشاعل الامل والتفاؤل في نفوس العراقيين جميعاً والمسيحيين منهم بشكل خاص.
وتوضحت معالم الجريمة في منطقة الدورة ذات الاغلبية المسيحية حيث مورست فيها عمليات القتل والتهجير القسري ضد العوائل المسيحية، واستهداف القساوسة وخطفهم بالاضافة الى تفجير عدد من الكنائس في محاولة تطهير عرقي لم يشهد لها العراق مثيلاً. فقد بدأ المسلحون بطرق ابواب العوائل المسيحية مطالبينهم بالجزية او اعتناق الاسلام او ترك منازلهم بمحتوياتها.
شيئا فشيئا تطورت العمليات الاجرامية بحق المسيحيين فكانت مذبحة كنيسة سيدة النجاة من ابشع طرق الاجرام حيث قامت مجموعة مسلحة بالدخول الى صحن الكنيسة وحجز المصلين فيها والابتداء بأعدامهم واحدا تلو الاخر في حادثة لم يشهد مثيلها التاريخ راح ضحيتها العشرات بين شهيد وجريح.
كانت حادثة سيدة النجاة بداية جديدة ودافعا قويا لهجرة المسيحيين في العراق حيث خلت البيوت من ساكنيها شيئاً فشيئاً، احياء بأكملها استبدلت اسماءها واهلها عنوة، وهكذا غادر المسيحيون وطنهم الذي ولدوا فيه وعاشوا فيه ودفنوا اجدادهم تحت ترابه.
وإزاء هذا الوضع الاخير اطلق الكثير من رجال الدين صيحات مدوية كشفت فيها حجم المأساة التي يعيشها المسيحيون في العراق وتعالت اصوات الاستنكارات وامتدت الى الشارع الاسلامي الذي ادان واستنكر جميع الاعمال الارهابية التي طالت المسيحيين ووضعت مرتكبيها في خانة المجرمين والقتلة بعد ان كانوا يرفعون شعار الدين لتبرير جرائمهم والدين منهم براء.
ومما يحير جدا ان الجناة مازالوا طللقاء احرار دون محاسبة من احد رغم الاعلان عن القاء القبض على البعض إلا اننا لم نشهد محاكمة عادلة لاحد، لماذا ياترى هذا الصمت العجيب عنهم؟
واليوم يسير مسيحيو سوريا على خطى مسيحيي العراق لا بل القوى الظلامية التي تسيطر اليوم هناك تقوم بأبشع عمليات الاجرام بحق المسيحيين ورجالاتهم واديرتهم وكنائسهم وكانت حادثة بلدة صدد مؤخرا لا تختلف عن حادثة سيدة النجاة إن لم تكن ابشع حيث قام الارهابيون هناك بأحتجاز اكثر من 1500 شخص في المدينة وبعد خروجهم اتضحت معالم الجريمة التي ارتكبوها حيث كُشفت مقابر جماعية للشهداء الذين ضحوا بدمائهم من اجل ايمانهم ’ غير التخريب والدمار الذي لحق بالاديرة والكنائس والمناطق الاثارية التي امتدت يد الاجرام اليها.
إن ما يحدث اليوم هو نتيجة جهل مطبق من قبل من يقوم بهذه الاعمال حيث لا يستطيع ان يواكب العصر الجديد لان فكره ومعتقده لا يتطابق مع ثقافة العصر ولا مع التقدم العلمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي هو وليد العقل البشري الذي اعطي من الله ليزدهر الانسان ويسير نحو كل ما يخدم البشرية على جميع الصُعد. إلا ان القوة الظلامية التي تريد ان تسيطر اليوم وتفرض معتقداتها البعيدة عن الواقع لا تستطيع ان تقاوم فالتقدم البشري اقوى من ان يُساق الى المجهول.
ورغم هذه القساوة وقوة الاضطهاد إلا ان إخماد المسيحية والقضاء عليها ليس بالامر السهل، لا بل ستخرج من محنتها الدامية راسخة في ايمانها، ثابتة في مبادئها وشجاعة في المجاهرة بمعتقدها وايمانها، وسيصبح الدم الغزير الذي ارتوت منه ارض المشرق بذراً خصباً لأستمرار المسيحية فيها مهما كانت الظروف.