بقلم جورجينا بهنام
قصة قصيرة بعنوان.. جريمتي
03 /11 / 2013
http://nala4u.com
جريمتي
قصة قصيرة
كأني فلاح من سلالة فلاحين عميقة الجذور في تراب الأرض، متماهيا مع أصولي الطينية، مخضبا ثيابي بقزعها الكاكية، هكذا حفرت عميقا…عميقا جدا، لم يخطر ببالي، وأنا المتعلم ابن المتعلمين، أن أكون بارعا باستخدام الرفش، لكني أبليت بلاءً حسنا في حفر ذلك القبر الفسيح الذي ما عدت اذكر أبعاده، رغم أني لم أنس أني حفرته في حديقة منزلي الجميلة، بيدي هاتين، أتلفت أزهاري الملونة وقلعت شتلاتي اليانعة، يتمت بعضها ورملت بعضا، و أثكلت آخر، لأحفر قبرا اُواري فيه جسم الجريمة قبل أن يـُفتضح أمرها.
بخطوات واثبة هرولت بسرعة لم أعدها بنفسي، وسحلت جسم الجريمة المحشور في ذلك الكيس القنبـّي المتخم حتى ليكاد ينفجر في وجهي مضمخا إياه بحمرة قرمزية. بكل ما أوتيت من قوة ألقيته في غور قبره العتيد وأهويت الرمل عليه أسارع الرفش تلو الآخر، حتى عادت الأرض إلى استوائها، أو كادت، وفي عجالة وزعت فوقها أصص الزهور راحة لنفس المرحوم، ولما بدت الصورة لي قد عادت إلى طبيعتها ملأني إحساس عميق بالراحة والرضا، خشيت لفرط لذته على نفسي من التمادي.
أفقت من سحر اللحظة على صوتها المتوسل:
- (الله يخليك أستاذ… ما ألنا غيرك)…إن أحرقناها سيطير الدخان بعيدا وتدغدغ الرائحة أنوفهم الفضولية، لا تعرف كيف سحلته إلى هنا، سامحني لأني ورطتك معنا، ولكن الجماعة يحترمونك ولن يدوسوا بيتك. أليس كذلك؟
- إطمئني يا أم يوسف..سرّكم بات في بئر عميقة، وأسأل الله أن يستر علينا جميعا، خدمتكم واجب عليَّ، ليرحم الله أبا يوسف، ويحفظه لك، اخبريه عن لساني أن يحذر، ويصب اهتمامه في دراسته، فالشهادة خير سلاح، ثم ليس في كل مرة تسلم الجرة….
بهذه العبارة كنت اُحدث نفسي مودعا أم يوسف التي ما ملَّ لسانها من الدعاء لي ولعائلتي ولأولادي وأحفادي الذين في علم الغيب، وصبت وابلا من الرحمات على أجدادي حتى أبينا آدم.. ألا استحق؟ وقد رفعت النير الثقيل عن كاهلها وألقيته بملء إرادتي فوق ظهري، هل حقا فعلت هذا بإرادتي؟ أم أني كنت مغيبا شارد الذهن معطل العقل وأنا ادفن جسم الجريمة ذاك في بيتي؟ ماذا لو وجدوه مدفونا في حديقتي؟ ملأني الخوف فجأة وراحت فرائصي ترتعد..
لكن يوسف ما زال في مقتبل العمر، طيش الشباب ربما كان السبب، أو لعلها الظروف القاسية، وقد يكون الفقر، الاندفاع وعوز المراس في الحياة، كلها لم تقنعني لأرضى أن يضيع مستقبله، روح أبيه استصرخت ضميري، ودموع أمه المنسكبات بحرقة و لوعة وصدق، لم يفسحا مجالا أمام ضميري ليناله الوسن. الفتى سيضيع إن وجدت قوات الأمن ذلك الكيس القنبي في بيته، سيأخذون يوسف ولن يعود ابدا..سيغرق. في بحيرات الاسيد.
في قرارة نفسي كنت أعلم أني فعلت الصواب بعينه، وإن بدا الأمر غير ذلك، أحب يوسف كولد لي ووالده المرحوم من أقاربي الأباعد..كما انه ليس بمجرم، أجريمة أن تكون مثقفا شغوفا بالاطلاع مولعا بالقراءة؟ ومكتبتك عامرة بالكتب، جلها كتب حمراء… كم كان هذا اللون مقيتا ومن يصطبغ به كان مجرماً، يقيني أن يوسف ليس كذلك لذا كان ضميري مرتاحا بل مرتاحا جدا بعد أن دفنت كتبه الحمراء، وكان ليقض مضجعي لو أني أهملت مساعدته، هذا الشاب أمامه مستقبل مكانه في الجامعة وليس السجن وقطعا ليس في الأحواض.
أتذكر ذلك اليوم وكأنه الأمس فظهري ما انفك يؤلمني حتى الساعة، فما أعانني على حمل أغراضي التي كومتها على عجل، في ذلك الصندوق الصغير وأنا أهم بمغادرة مكتبي في الجامعة… فقد حان زمن التغيير، وأمثالي صاروا تركة عهد ولى. ثم إني تعبت كثيرا وآن لي أن أستريح… تحلق الطلبة والأساتذة حولي، غمرتني ابتساماتهم وكلمات الامتنان بالرضا، وأنا أغادر مفسحا المجال أمام الطاقات الشابة، ودعتهم بخطوات متثاقلة أتعبتها السنون، قاصدا غرفة العميد لألقي عليه تحية الوداع…عندما اعلمه السكرتير بحضوري، خرج الرجل لاستقبالي وأدخلني أمامه مع مزيد من عبارات الترحيب والتوقير، فهو احد طلبتي، دعاني لأتعرف برئيس القسم الجديد العائد حديثا من الخارج مدججا بالشهادات والخبرات…رغمها لم يتكلف النهوض من كرسيه احتراما لعمري وشهاداتي التي ضاقت بها الجدران، مد يده ليصافحني وابتسامة صفراء ترتسم على شفتيه:
-أتعرفني بالدكتور؟ انه أشهر من نار على علم، وأحد رجالات البلد المعدودين في العهد السابق…..ولعل حياءه منعه أن يقول: (أزلام)…
يا الهي ..هل هذا هو حقا؟ هذا المتعجرف.. هل هو حقا يوسف؟ نعم انه يوسف الذي لم يعد احمر….لقد تلوَّن.
جورجينا بهنام
03/11/2013