مجرد سؤال

بقلم جورجينا بهنام
مجرد سؤال

30 /05 / 2013
http://nala4u.com

شكل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في أيلول 1980، نقطة تحول في حياة كثير من العراقيين، ومع توالي الأيام والشهور، أدرك كثيرون أن الحرب لن تضع أوزارها بين ليلة وضحاها ولن تكون مثل الحروب المعتادة مع إسرائيل، يوم أو يومان وأقصى حدودها حرب الأيام الستة. وإذ واصلت رحى الحرب دورانها لتطحن تحت صخرتها الجلمود أياما وشبابا وثروات، اعتقد البعض أن السفر والرحيل عن الوطن هو حل آني جيد، فنيران الحرب مستعرة على طول الحدود الشرقية وليس ثمة بارقة أمل في الأفق المنظور تشير إلى الساعة التي ستنتهي فيها تلك الحرب والنفق مظلم دامس والضوء الذي في آخره غير واضح المعالم، فشد ذلكم البعض الرحال و(شال ضعنه) إلى ديار الغربة مُلاما وغير مرضي عنه، حتى وإن كان يطمح للعودة بعد حين، ففكرة الهجرة لم تكن بعد قد اختمرت في أذهان العراقيين و حبل المودة والانتماء إلى الوطن لم يزل متينا عصيا على القطع، ثم إن الحرب كانت بعيدة ومقتصرة على الحدود الشرقية والمدن، سيما الكبرى منها، آمنة، فلماذا الرحيل؟ وقبل أن يفكر غيرهم ذات التفكير كان السفر قد مُنـِع.
وبعد سنوات من الصراع والتضحيات والألم، وضعت الحرب أخيرا أوزارها، وأوفى من استطاع نذره واستعفي من نذر أمرا أشبه بالمستحيل ليفعله يوم تنتهي تلك الحرب البغيضة بعدما قطع الرجاء بأن يشهد ذلك اليوم ولكنه شهده أخيرا، وارتفع مؤشر السعادة وغادر مؤشر الطمأنينة مكانه المتدني المعتاد مسجلا نوعا من التحسن الملحوظ.
لكن أيام السلام لم تدم طويلا، ومهما كانت الأسباب قوية والحرب الاقتصادية من الأشقاء قائمة على قدم وساق، وسوى ذلك من الأسباب التي لم ولن تبرر اجتياح دولة جارة وشقيقة، ولسنا بصدد البحث عن مبرر أو مناقشة الآثار التدميرية لذلك الاجتياح، فحسبه انه كان دافعا قويا لبعض آخر من العراقيين، سيّما أولئك الذين امضوا زهرة شبابهم في جبهات القتال وما عادت فيهم صحة لا رغبة في المزيد، إلى البحث عن بلد آخر يعيشون فيه بأمان وسلام وكرامة. كانت حرب الكويت ثقيلة على العراقيين وعاصفة الصحراء حملت للعراق غبارا كثيفا وريحا صفراء سموما لم تبق ولم تذر، واشتعلت الثورات والانتفاضات في كوردستان العراق وجنوبه وإذ أخمدت بالطرق المعتادة تضاعف عدد المغادرين هذا فضلا عن الهجرات المليونية، والجنود الذين وقعوا في أسر قوات التحالف فعرضت عليهم أن تنقلهم إلى أي بلد يشاؤون، منهم من وافق، ومنهم من عاد إلى أمه ليكفكف دموعها أوالى أبيه ليكون عكازه في أيام مشيبه، وعداد المغادرين والراحلين عن الوطن يسارع خطاه، وحبل الانتماء فقد شيئا من متانته و منعته.
ولما كانت أيام الحصار الاقتصادي أمَّر وأقسى، ترحم معها البعض على أيام الحرب مع إيران وتمنوا لو أنها دامت الدهر كله، وبعدما باع كثير من العراقيين أثاث بيوتهم ليطعموا أولادهم، يوم كانت راتب الموظف الشهري لا يتجاوز الـ3000دينار عراقي والدولار الأمريكي الواحد يساوي ذات المبلغ، شرع بعض آخر بالمغادرة وصارت عمان عاصمة المملكة الأردنية محطة انتظار انتقالية بين نار الوطن وجنة الغربة! ولسان حال المهاجر يقول (نارك ولا جنة هلي) والعداد يسارع خطاه بل راح يهرول ليسجل أعداد المهاجرين، وحبل الانتماء شرع يستحيل خيطا.
ما انفك ذلك الجرح العميق ينزف قطرة إثر قطرة في صمت حتى لكمته أحداث ما بعد التغيير في 2003التي ظن كثيرون في بدايتها أن العراق سيغدو فردوسا وراح آخرون يهاتفون أقاربهم في ديار الغربة يدعونهم للعودة إلى ارض الوطن الحبيب الذي سيغدو كجنات عدن تجري فيه انهار من خمر وعسل، فأوفوا نذوركم يا معشر الناذرين، لأن الذي ظننتم انه جاثم إلى الأبد ها قد رحل، ولكن…
وصل العداد حالة من الانفلات أشبه بالانفلات الأمني وما عاد أي عداد مهما كان منشأه، قادرا على إحصاء الملايين التي راحت تغادر زرافات ووحدانا، اكتظت منها سوريا ومصر والأردن واليمن و ليبيا وما تلاها، وبلاد السويد وما جاورها وأرض العم سام وما ساواها وصار العراقيون الزبائن الأشهر للمنظمات الدولية للهجرة وسواها، ويشكلون الطابور الأطول لطالبي اللجوء، السياسي منه والإنساني، لدى منظمات الأمم المتحدة، لان الوضع ازداد سوءا وفـُقـِد الأمن وضاع الأمان، وقبلهم تلاشى الولاء للوطن وحل محله الولاء للعشيرة أو الطائفة أو الديانة وصار أبناء البيت الواحد يتصارعون فيما بينهم، ويستبيحون دماء بعضهم وصارت (الهزيمة هي كل المراجل وليس نصفها)، وخيط الانتماء ما زال يكابر محاولا الصمود والمقاومة.
مع ويلات التهديد والتفجير والتهجير، اختار بعض آخر الا يبتعد عن هذه البقعة متمسكا بما تبقى من ذلك الخيط المتهالك، رحل عن بيته وأهله ومدينته إلى بيت أخيه وله فيه أهل وصحبة وأخوة وجيران، فاستقرت أعداد كبيرة من النازحين الباحثين عن الامان والاستقرار وفرص العمل والعيش بكرامة، في إقليم كوردستان العراق.
تمضي الأيام والسنون حاملة في ثناياها تغييرات كبيرة، فالذي هرب من نيران الحروب إلى اميريكا، بعد عام ونيف نال (البطاقة الخضراء/الكرين كارت) التي تمكنه من السفر إلى أي بقعة في العالم، وإن صبر خمس سنوات فقط صار مواطنا أمريكيا يحمل جوازا أمريكيا مكتوب عليه (حسبما يشاع): «حامل هذا الجواز تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية فوق أي ارض وتحت أي سماء». ومن قصد الأراضي الكندية فارا من الهوان باحثا عن كرامة الإنسان، فـ(1000) يوم من الإقامة الدائمة ستؤهله لحمل جنسيتها وجواز السفر الذي يقولون انه مذيل بعبارة: «سنحرك أسطولنا من أجلك». وكذا الأمر لمن كاد يغرق في البحر الهائج وهو يعوم نحو الحرية في السويد وسائر الدول الأوربية، فاز بعد سنوات معدودات بالجنسية وتمتع بمكتسبات نيلها ما بين ضمان صحي واجتماعي وسواها. أما من اختار الرحيل من الوطن الى الوطن فليس له أن يحلم بعد أعوام الإقامة الدائمة بنيل الجنسية، فمازالت هي ذاتها، وحسبه أن يتطلع بعد إقامة دائمة تعدت ما يلزم للجنسية الأمريكية والكندية وسواها إلى الحصول على ورقة إقامة دائمية، بعدما حمد الله لان طقوس تجديد الإقامة قد تطورت إلى إجراءات سنوية بعدما كانت فصلية، وشكر فضل رب العالمين بعد الاستعاضة عن استنساخ الأوراق الرسمية المدعوة بالمربع الذهبي وسواها كل ثلاثة أشهر، بقرص ليزري يحمل المعلومات المطلوبة. المقارنة ليست واردة لكن السؤال الملـِّح مازال يطرح نفسه: إلى متى؟ مجرد سؤال.

جورجينا بهنام
30/05/2013

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.