الليلة التي قضيتها في مخفر الشرطة

بقلم ليلى القصراني
By Layla Qasrany
laylaqasrany@yahoo.com

17 / 04 / 2013
http://nala4u.com

كان آخر يوم في شهر شباط من سنة 2010، حيث كنت جالسة أتعشى مع صديق في حانة صغيرة في أطراف شيكاغو حيث أعيش. كان المكان مكتظا بالزبائن وأغلبيتهم من الأمريكان البيض. كنا الوحيدَينِ المهاجرينِ، ويبدو أن أحد الزبائن لم يعجبه حضورنا الأجنبي، فما أن رآنا حتى بدأ يتصرف بشكل صبياني، كان هو برفقة مجموعة من زملائه، وهم جميعا ندل في مطعم فاخر في المنطقة نفسها، ومن عادتهم، كما عرفت لاحقا ، أن يسهروا في تلك الحانة بعد أن ينتهوا من عملهم كل ليلة سبت، أراد الزبون وهو شاب في العشرينيات، واسمه شين Shane أن يلعب معي لعبة خبيثة، فمد يده في معطفي المعلق على الكرسي حيث أجلس، وسرق مفتاح سيارتي وبطاقة الائتمان،عرفت اسمه لأنني استدرت في بداية السهرة على الكرسي الدوار قرب البار، فأصبحت بمواجهته عن دون قصد، “ما اسمك؟” سألني على الطريقة الأمريكية. قلت له اسمي وهو عرفّني باسمه. لم تعجبني نظرته. كانت لعينيه نظرة مخيفة رغم الابتسامة التي على شفتيه.
عندما هممنا بالمغادرة إرتديت معطفي، فانتبهت فوراً لاختفاء محتويات الجيب الذي كان بقرب شين. كان شين يراقبني من بعيد! بعد قليل وضع مفتاح السيارة على طاولة في زاوية ما، انتظرت أن يكمل اللعبة بأن يضع بطاقة الائتمان على طاولة أخرى لكنه كان يتحرك بطريقة صبيانية وأنا أراقبه بصبر، ذهبت الى النادل خلف البار وطلبت منه أن يتكلم مع الشاب اللعين، قلت له: أرجوك قل لشين أن يعطيني باقي الأشياء التي أخذها من جيبي، وبصورة منحازة تهجم علي النادل، وقال كيف لك أن تجزمي أنه هو من أخذ اشياءك؟! حاولت أن أفسر له غرابة تصرف شين لكنه لم يسمع. خرجت في البرد القارس أبحث عن الأمريكي الأشقر الذي كان يدخن خارجاً. قلت له بلهجة آمرة. أعطني أشيائي فأنا لا أعرفك كي تلعب معي، ركض واختفى. اقتربت مني زميلته، واسمها براندي، وهي سكرانة صارخةً في وجهي بشتائم لا يمكن أن أدونها هنا: “من أين أنت أيتها المهاجرة الوسخة… أرجعي إلى بلدك من حيث أتيت”، أفهمتها بأن مشكلتي ليست معها بل مع زميلها بينما وجهها يقترب من وجهي أكثر وقارورة البيرة في يدها. حاولت أن أبعدها عني بأن أصفعها أو شيء من هذا القبيل لكن للأسف لم تلمس أصابعي سوى طرف قبعتها. بدأت تصرخ مثل كلب ينبح. كان البرد شديداً والوقت متأخراً وأنا تعبانة ونعسانة، دخلت مرة أخرى إلى الحانة بحثا عن شين وعن منديل لأنظف به أنفي الذي بدأ يسيل من شدة البرد،عثرت على منديل ملفوفا بسكين وشوكة. رأتني أحدى زميلات شين وصرخت “إنظروا الى هذه المجنونة. تريد أن تطعننا الآن”. مخطت أنفي وبعد أن انتهيت قلت لها: أيتها الشابة. ينبغي عليك أن تذهبي إلى البيت وتأخذي دواء البروزاكProzac) ) أنتم الأمريكان كلكم مجانين وبحاجة إلى هذا الدواء.” كانت كلماتي القاسية صدمة للجميع ربما لأني تفوهت بها بكل برود علما أن الدواء هذا ضد الكآبة. توجهت نحو النادل خلف البار وقلت له أن يتصل بالشرطة. قال “أنت مجنونة. الشرطة تعرفنا ولا تعرفك. ستأتي وتأخذك أنت” لم أصدقه لأني كنت أظن إلى تلك اللحظة بأن أميركا هي بلد العدالة.
كان علي أن أنتظر يومين حتى صباح يوم الاثنين كي ألغي حساب بطاقة الأئتمان. فهذا الشاب الطائش يمكن أن يستخدمها، وقد يشتري ما يشاء عن طريق النت مثلاً. الاتصال بالشرطة كان هو الحل الأمثل في تلك الساعة. إتصلت بهم وبعد دقائق حضر البوليس بسياراتهم وأسلحتهم. كان الشرطي المسؤول واسمه توماس يستمع الى براندي السكرانة وللغرابة أنه صدق بأني ضربتها وهي أدعت بأنها هي بحاجة أن تذهب إلى المشفى. ولمفاجئتي كبلني الشرطي ووجدت نفسي في المقعد الخلفي في سيارة الشرطة، حاولت أن أمانع ورفعت صوتي شاتمة الحانة وأميركا وشين الذي اختفى. الشرطية الجالسة خلف المقود شابة مكسيكية ناعمة. قلت لها من خلف الشباك المشبك الذي يفصلني عنها “عفوا أيتها الضابط عندي سؤال لك. هل تعرفون أنتم الشرطة ما معنى كلمة ضمير؟” لم ترد لكنها نظرت إلي من خلال المرآة ثم أنطلقت. كانت تلك أول مرة أرى سيارة شرطة من الداخل، أبوابها مصممة بحيث لا يمكن فتحها إلا من الخارج. والمقعد الخلفي معزول تماما عن المقاعد الأمامية بشباك سميك وقضبان صغيرة.
بعد حوالي عشر دقائق وصلنا الى مركز الشرطة، أخذوا صورتي وبصماتي وأنا أفكر:اللعنة! الآن سيكون للشرطة ملف خاص بي هذا معناه بأن لا يمكن لي أن أقدم على عمل مناسب وفي يوم الأثنين سيكون اسمي في الجريدة المحلية في صفحة الجرائم! نفس الشرطية الناعمة أدخلتني إلى غرفة وفتشتني دون أن تشعرني بالإهانة. أمرتني أن أخلع الحزام أيضا الأقراط والصليب المعلق في رقبتي والخواتم. قالت لي “افتحي فمك ” فضولي دفعني لأسألها لماذا. ردت ” خشية أن يكون عندك حلقة اللسان!” فهمت حينها بأن أي شيء يمكن أستخدامه كسلاح وهذا دليل أما على ذكاء الشرطة أو على جبنهم. الحمامات داخل مركز الشرطة لا يوجد فيها سلة نفايات. ولا أدوات تحمل أوراق الحمام لأن كل تلك قد تستخدم كأسلحة.
طلبت مني الشرطية الأنتظار من أجل التحقيق الذي قام به بعد حوالي الساعة شرطي الخفارة. فهمت منه بأن براندي زميلة شين قد رفعت ضدي دعوة والآن علي أن أواجه القانون. حاولت أن أوضح له بأن هي زميلة للذي سرقني وبأن هي باتهامها هذا تموه على السرقة. هو أيضا قال لا يمكن أن أتهم أحداً بالسرقة دون إثبات.
بقيت حتى الرابعة صباحاً وأنا جالسة على المقعد الحديدي بقرب شابة هندية حامل. ارتحت لحضورها لأن الهنود في أميركا معروف عنهم بأنهم لا يتسببون في المشاكل والسجون تكاد تخلو منهم. كنت أتمنى أن أعرف ما جنحتها لكن لم يكن بأمكاني أن أتحدث معها بحضور الشرطة. أكمل الشرطي التقرير وناداني وأعطاني نسخة منه. بكيت عندما قرأت التقرير: لا يسمح بمغادرة أميركا قبل موعد المحكمة. كنت سأسافر الى دمشق بعد أسبوع.

اتصلت بأحد الأصدقاء فجاء إلى مركز الشرطة بعد ساعة. دفع عشرة بالمئة من الكفالة وخرجنا. لم يسألني عن مشكلتي بينما أبكي طوال الوقت وهو يوصلني إلى سيارتي. كان الوقت حوالي الخامسة والنصف صباحا . وصلت إلى البيت وأنا تعبى و خائفة. فماذا لو عرفوا أخوتي بما حدث لي؟ أختهم الصغيرة كانت سهرانة في بار وبدل أن تكون نائمة في فراش دافئ قضت الليلة في مركز الشرطة. كانوا هم سيذهبون الى الكنيسة بعد ساعات قليلة. أذكر أني لم أنم بسهولة لأني كنت ملآى بالإشفاق على نفسي. بدت هذه المشكلة في وقتها كبيرة. الآن يبدو كل الأمر مضحكا رغم إنها قد كلفتني الكثير.
قلت في نفسي في ذلك الصباح قبل أن أنام :علي أن أنتقم من هؤلاء. فاستعنت بالسلطات العليا من الالهه العراقية لأني عرفت بأن صلاتي المسيحية لن تنفع لأن إله المسيحية ليس إله انتقام. صليت تلك الليلة لجلجامش وتذكرت العباس أيضا الذي فيه مسحة من جلجامش عند إخوتنا الشيعة، قلت له يا عباس يا قديس العراقيين المساكين انتقم لي من هؤلاء العصابة. من براندي وشين ، من توماس الشرطي الذي كبلني ومن نادل الحانة ومن صاحب الحانة. صب جام غضبك عليهم كلهم. من كل الذين وقفوا ضدي في تلك الليلة. ونمت وفي قلبي مرارة دون أن أعلم بأن دعائي سوف يستجاب.

لا أطيل عليكم . قلت لأهلي باختصار ما حدث :كنت في المكان الخطأ في الوقت الخطأ ووقعت في التجربة! اتصلت بمكتب الخطوط وغيرت بطاقتي الى أجل غير مسمى. ويوم الاثنين أكتشفت بأن شين لشدة غبائه لم يستخدم بطاقة الائتمان سوى لشراء بعض المشروبات له ولأصدقائه وعلبة سجائر وعشاء في نفس الحانة. لم تزد الفاتورة على أكثر من مئة دولار!
بعد أكثر من شهر وفي يوم المحكمة لم تحضر المجنونة براندي. القانون في أميركا وفي الجنح الصغيرة مثل هذه يصرفها القاضي في حالة غياب المشتكي. والقرار النهائي للقاضي. رغم رفض المدعي العام صرف القاضي الجنحة. إبتسم لي وأنا بوداعة طأطأت رأسي وكأني ملاك بريء.تركت أميركا بعدها بأيام قليلة وأنا غاضبة وبقيت في سوريا لحوالي ثمانية أشهر. لم أتق فيها ولا للحظة لبلاد العم سام. ولولا أمي المريضة لما رجعت.

بعد أكثر من سنة لم أكن طبعا قد نسيت ما حدث. مررت بجانب الحانة التي وقعت فيها المشكلة تلك الليلة، وإذا بها مقفلة الأبواب ومهجورة. عرفت بأن العباس استجاب لي. كنت أريد أن أعرف أخبار شين الشرير وزميلته براندي. فذهبت بصحبة صديقة إلى المطعم حيث يعملان. لم ندخل إلى الصالة الكبيرة خشية أن يكونا متواجدين. جلسنا على البار وكانت النادلة امرأة طيبة، سألتها عن براندي قالت “طردت براندي من العمل بعد مشاجرة مع زبون.” وماذا عن شين؟ ” شين دخل السجن لاسباب عديدة” وواحدة من تلك الأسباب إنه أستخدم حسابي.

في فيلم كازا بلانكا يقول همفري بوغارت جملته المشهورة
Of all the gin joints in all the world she walks into mine
التي ترجمتها ” من كل بارات العالم تراها (العشيقة) قد دخلت الى حانتي” هذا بالفعل ما حدث مع الشرطي توماس. ففي مدينة شيكاغو التي يسكنها أكثر من أربعة ملايين شخص ومن كل حانات المدينة صادف وإن ذات مساء رأيت توماس داخلا البار القريب من مسكني. لم يتذكرني هو فلو تذكرني لما تكلم معي. في المرة الثانية عندما رأيته كانت ذراعه مربوطة برقبته سألته وأنا أضحك في سري “ماذا حدث؟” قال بأنه نجا من الموت بعد حادث دراجة نارية.
في الأسبوع الماضي عرفت بأن توماس قد طرد من العمل من نفس مركز الشرطة، وسيغادر إلى مدينة نائية في إحدى الولايات الشمالية باحثاً عن عمل.

ليلى قصراني
17/04/2013

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, ثقافة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.