بقلم د. جميل حنا
نيسان النور والدم
01 / 04 /2011
http://nala4u.com
في الأول من نيسان نحن على موعد أبدي مع التاريخ والحاضر
والمستقبل . وذكريات الأمجاد العريقة سائرين على خطى الأجداد عبر مسيرة
الزمن . نحتفل معاً بهذه الذكرى الخالدة . نستعيد صفحات مشرقة في تاريخ
الإنسانية طواها الدهر على أمجاد أجدادنا العظماء .
الأول من نيسان رأس السنة الآشورية السريانية الجديدة .
نيسان
الخير والعطاء … نيسان الأمل والبسمة … نيسان الشعب الأصيل والتاريخ
العريق … نيسان البهجة والنور … نيسان المجد والعظمة … نيسان رمز التلاحم
القومي والديني .
فرحة نيسان ترتسم على الشفاه, وعيون تشع بهجةً ,
وقلوب مفعمة بالروح القومية تتباهى بحضارة الأجداد الذين قدموا للبشرية
العلم والمعرفة والنور , وحضارة إنسانية قائمة على عدالة القانون والشرائع
.عظماء الملوك كانوا يمثلون أمام حكم القانون ويعيشون كعامة الشعب.
نيسان رمز المرأة التي ينبثق من أحشائها الحياة الجديدة . نيسان رمز المجد
والعظمة والكبرياء للمرأة متمثلةً بملكة التاريخ والشعب الملكة شاميرام .
نيسان الرقي الإنساني وعربة الملك أشور بانيبال رمز التقدم والازدهار .
ولادة نيسان فرحة يفوح على الكون عبق الزهور, و يملأ القلوب محبة ويزرع البسمة والأمل لغد مشرق .
نيسان
مروج الأرض الخضراء, والجبال والأنهار العظيمة, تنشد الحان خالدة منذ إن
خلق الله الكون, وأغاريد الطيور تنشر أجنحة الحرية من السماء على الأرض .
نيسان
الدفء والحنان يضم بين راحتيه بني الإنسان . ورمز الخصب والحياة الجديدة
وانبعاث الحياة مجددا في أوصال الطبيعة, تمد الإنسان بالعطاء اللامحدود
وتهب الكون سحر الحياة . نيسان البهجة والورود الزاهية والماء العذب
الرقراق الجاري من خاصرة الجبال ونور الشمس… ورحيل الظلمة .
نيسان عمدّ بالنور والدم !!!
منذ أن خلق الله آدم وحواء كان نورا للبشرية ,وحكم الإنسان الكون بإرادة الخالق .
وما
إن وقع آدم وحواء في الخطيئة الأبدية , كان سقوط من مجد الأعالي إلى ارض
الظلمة .ولأن الله يحب الإنسان بعث بابنة الوحيد ليكون مخلصا له لأجل
الحياة الأبدية .
فكان نيسان … نيسان الآلام وطريق الجلجلة .حمل المسيح
الصليب وأكليل الغار والشوك على رآسة ,والدم يسيل والسياط تحفر مجاري الدم .
ودم البريء ْ يسقي أرض الخطيئة .طريق العذاب كان طويلا وشاقا إلى قمة
الجبل . حيث نصب الصليب , وصلب ابن الإنسان فداء لأجل خلاص البشرية
والحياة الأبدية .نيسان العذاب والدم والصلب والموت والانبعاث والصعود إلى
مجد الأعالي .
شتان ما بين نيسان النور والدم !!!
في الرابع
والعشرين من نيسان إطلالة أخرى على الشعب الآشوري السرياني . في فجر ذلك
الصباح الربيعي المليء بالإشراق .الذي لم يكن يختلف عن آي صباح آخر في
نيسان , في تلك المدن والقرى والجبال والوديان والحقول والمروج النائمة
بهدوء . لم يكن آي شيء غير عادي يدل على أن عصابات الجزارين سيحولون هدوء
الفجر الربيعي الأخضر إلى مسلخ مليء بالدم والأجساد الطاهرة المتناثرة في
كل مكان .وسيحولون الفجر الهادئ إلى ملحمة عذاب الأبرياء . لم يكن هذا
اليوم مثل يوم القامة الأخير كما هو مذكور في الكتب المقدسة, لم تحجب
السماء نورها عن الأرض . الشمس كانت مشرقة تنير الكون وعلى قمم جبال أثور
وهكاري وجبل ايزلا كان شعاع الشمس يسترسل خيوطه الذهبية الناعمة كالحرير
على محيطة النائم بصمت قاتل . ظهر قرص الشمس باكرا في قوس السماء يسطع
بنوره الباهر .لكن ذاك الفجر , ذاك الصباح لم يكن عاديا كأي صباح آخر في
نيسان , الأرواح الشريرة نزلت على جيران الشعب الآشوري السرياني .هؤلاء
الجيران الذين كانوا بالأمس جالسين في بيوت أجدادنا وآبائنا يتناولون
الطعام معهم ويتبادلون الأحاديث الودية .آي أرواح شريرة انفلتت من قمقمها !
آي بغض وحقد دفين كان هؤلاء يخفونه !. كيف تحول الجيران إلى أداة في يد
الشيطان !آي كراهية مخفية كانت في قلوب هؤلاء لتنقض في الفجر , في صباح ذلك
اليوم الربيعي المشرق. وإن تنفذ بدقة ووحشية تفوق كل تصورات العقل البشري
ابشع جريمة إبادة عرقية جماعية مليئة بالأحقاد والتعصب الديني الأعمى . في
نيسان طغت رائحة الدم والموت على رائحة خبز التنور وعبق الزهور. ويد الطغاة
الملطخة بدماء الأبرياء خطف عطاء الله وجمال الكون… وحوله إلى جحيم
ودمار .
نيسان بساط العشب الطري المنثور بقطرات الندى والدم ألزكي… دم
الأبرياء… دم الأطفال الرضع… والفتيات العذارى… والنساء والشيوخ…
يسقي التراب .نيسان شعاع الشمس الربيعي يفرش وجه الكون بغطائه, ينير الدروب
والوديان والمروج والحقول والأنهار .
نيسان ينير الأشلاء الملقاة أمام
ناظري الكون .نيسان المدن والقرى الهادئة المسالمة… أصبحت ساحة للصوص
والمجرمين …ارتكبوا فيها أبشع المجازر… في هذه البقعة من الأرض…
بحق الأبرياء في طور عابدين ,آمد (ديار بكر ) ,اورهي (الرها) هكاري , وان ,
اورمية … وكل جزء من ارض الوطن .لم تكن المرة الأولى في تاريخ الطغاة…
منذ إن غزت جحافلهم أرض بلاد ما بين النهرين …فاستولوا على أرضها وفرضوا
سلطتهم بقوة الحديد والنار على شعوب المنطقة… ومارسوا شريعة الغاب منذ
إن وطأة أقدامهم ارض الأباء والأجداد .لم تكن فقط الدعوة إلى التمييز
والبغض والكراهية والتكفير من فوق المنابر لعبتهم المحببة . بل كانت الدعوة
إلى التصفية العرقية والجسدية على أساس ديني وقومي وقتل الكاور (الكافر
)هي خيارهم ولعبتهم المفضلة حسب مفاهيمهم الغاشمة المليئة بالأحقاد,
والتعصب الديني الأعمى للقضاء على كيان الشعب الآشوري السرياني وكل
المسيحيين بشكل عام. كانوا يرتكبون الجرائم البشعة بعشق لا يضاهيه عشق
آخر… وعطش لا يضاهيه عطش آخر لدماء الأبرياء .وتفننوا في أبتداع أساليب
إبادة أبناء الشعب الآشوري السرياني… أصحاب الأرض الحقيقيين .
عالمان
متناقضان يوجهان بعضهم البعض في نيسان… عالم الخير والشر , النور والظلمة
,الحرب والسلام , ألبرائه والأجرام , المحبة والكراهية , الأمان والغدر …
في هذان العالمان المتناقضان عاش ويعيش شعبنا. وتقف تلك المدن الحزينة
والأوابد الصامدة والمعابد المقدسة والجبال الشامخة وبقايا الكنائس
والأديرة والبيوت المهدمة… تطل بنظرة ازدراء واحتقار إلى الطغاة
المجرمين… وإيدانة صارخة على صمت العالم المشين… الساكت أمام هول
الكارثة .وتلك المعالم تحدثنا عن مآسي هذا الشعب العريق… وأمجاده الغابرة
…والذين عبثوا دمارا بتلك المدن المقدسة… ودور العبادة وكل صروح
المدنية والإنسانية… لأن البرابرة لا يعلمون معنى المدنية والإنسانية …
شيء واحد يفهمونه ويمارسونه بإتقان… الأجرام والدمار وقتل الأبرياء .
نيسان
رمز الشهادة والفداء…رمز الأيمان وطريق الخلاص .في نيسان ستقام النصب
التذكارية لضحايا المذابح في بلاد ما بين النهرين. تذكر البشر في كل مكان
وزمان عن العهود الظالمة للمذابح الفظيعة المرتكبة بحق الإنسانية.عندما تحل
الحرية والديمقراطية والسلام والمساواة والعدالة الحقيقية ,وتزول الأحقاد
والكراهية الدينية والقومية… ويتساوا جميع الشعوب في الوطن بدون تمييز
عنصري ما بين صغيرها وكبيرها .وعندها سيكون لشعاع الشمس… وضوء القمر…
المطل من فوق قمم جبال آثور وايزلا… إضاءة ومعنى أخرى للحياة .مضاءة بروح
المحبة والسلام …وتعيد لتلك البقعة المقدسة أمجادها الغابرة لتصبح مجددا
قلاع العلم والمعرفة والعيش المشترك بسلام بين مختلف الأقوام أبناء الوطن
الواحد.
بلاد ما بين النهرين كانت مصدر شعاع نور العلوم والمعرفة…
والفلسفة والآداب …لعصور طويلة في تاريخ البشرية .حيث قدم شعبنا خدمات
جليلة للإنسانية . وما زال يعمل بكل ما يملكه من طاقات لأجل خدمة تقدم
وازدهار وطنه أينما كان . بالرغم من المظالم والاضطهاد الديني والقومي التي
تعرض لها عبر التاريخ الطويل. كان وما زال مواطنا أمينا… محبا…
مضحيا… للوطن وقدم قوافل الشهداء… لأجل الاستقلال والحرية والمساواة
وتطور الوطن .
في نيسان تجتمع ذكريات الألم… والفرح… معا وسيبقى
نيسان… بكيلا الحالتين يعيش في وجداننا .ونيسان سيبقى رمز انتصار إرادة
الحياة… على الموت .رمز النور… وانبعاث الحياة الجديدة .وفي كل عام لنا
لقاء مع نيسان. يعيش بيننا ونعيش بين كنفه شهرمن الزمن… ومن ثم يرحل
عنا… تارك نوره على الكون. ويعود إلينا بعد عام …بإشراق وبهجة ونور
جديد….نيسان شمعته لا ينطفئ أبدا….نيسان نوره آزليا .
د. جميل حنا