المسـيحيـة المشـرقيـة أمـام خيـارين!..

بقلم غســان يونان
المسـيحيـة المشـرقيـة أمـام خيـارين!..

18 / 12 / 2010
http://nala4u.com

بالأمـس، غـزا التطـرف والإرهـاب منطقـة الأشـرفيـة المسـالمـة (شـرقي بيروت) وذلـك انتقـامـاً للرسـوم الكاريكـاتوريـة “المدانـة” التي نشـرتهـا إحـدى الصحف الدانمـركيـة [حيث طالت مقـام النبي محمـد (ص)].

فبعـد الاحتجـاجـات (الحضاريـة!) التي حصلت في العاصمـة السـورية دمشـق، والتي أدت إلى حرق وسـرقة مكاتب السـفارة الدانمركيـة هنـاك، واعتـذار السـلطـات السـورية رسـميـاً للجهـات الدانمركيـة الرسـمية، انتقلـت تلـك الشـرارة (بوجههـا المتمـدن والمنظم هذه المرة!.) إلى العاصمـة اللبـنانيـة باتجـاه القنصليـة الدانمـاركيـة أيضـاً، ومـا لبثت أن أكلـت الأخضـر واليابـس في طريقهـا!!..
فكـان التعـدي بأبشـع أوجهـه على كرامـات المواطنين الأبريـاء وممتلكـاتهم وأعراضهم وأرزاقهـم، إضـافـة إلى التعـدي اللاأخـلاقي واللاإنسـاني على كنيسـتي “مـار مـارون” و “مـار نقـولا” و “دار مطرانية الروم الارثـوذكـس” في الاشرفية… لكـن القنصليـة الدانمـركيـة ـ الهـدف الأسـاس كمـا قيـل ـ لم يلحقهـا إلا القليل القليل من الأضرار!..
وكل ذلـك حصل باسـم الدين وعلى وقـع صرخـات ((لبيـك يا رسـول)) ورايـات خضراء مكتوب عليهـا ((لا إلـه إلا الله محمـد رسـول الله)).
كـل هـذا وذاك، رداً على الصحيفـة المذكـورة، والأخطـر من ذلـك كـان بمشـاهدة بعض رجـال الـدين الإسـلامي في طليعـة تلـك الغـزوة الكـبرى.
وهـذا ليس دفاعـا عن تلك الصحيفـة على الإطلاق، فحريـة التعبير تتوقف عند حـدود كرامـات الغـير، فكيف إذا كان هذا الغـير  “أديانـاً سـماويـة” تنادي بالمحبـة والتسـامح والاعتـدال. 

لكـن العقـل اللبـناني عمومـاً والمسـيحي بشـكل خـاص تمكن من اسـتيعـاب كل تلـك السـاعـات العصيبـة أو الفتنـة المدبرة للإيقـاع بلبــنان ولبـنانييـه، خاصـة بعـد الإنجـازات التاريخيـة التي تم تحقيقهـا بعـد انطلاقـة “ثـورة الأرز” في الرابع عشـر من آذار الماضي والتي سـاهم فيهـا معظم اللبـنانيين وبمختلف انتماءاتهم ومذاهبهم.
فمن أجل الحفاظ على كل تلـك الإنجـازات التاريخيـة المشـتركـة، حمـل أهـالي الأشـرفيـة مـجـدداً صليبـهم ومشـوا الجلجلـة.
لم تكن أيـة ردات فعـل سـلبيـة على كل الـذي جرى، لا بل بقي أهـالي المنطقـة محافظـين على هـدوئـهم وحكمتـهم ووحـدة بلـدهم، لا سـيمـا بعـد النـداءات المتتاليـة التي أطلقتهـا أغلبيـة القيـادات اللبـنانيـة الدينيـة منها والسـياسـية وبالأخص النـداء الـذي أطلقـه الدكتور سـمير جعـجـع “رئيـس الهيئـة التنفيذيـة في القـوات اللبـنانيـة” طالبـاً من المواطنين بالتزام الهـدوء من أجل اجتيـاز هـذا القطـوع وقطـع الطريق أمـام يـد الشـر والإجـرام التي تتربـص بلبـنان منـذ عشـرات السـنين..
حيث بـدا بشـكل جلي وواضح للقاصي والداني، مدى تمسـك مسـيحيي لبـنان عمـومـاً وأهـالي الأشـرفيـة خصوصـاً بلبـنانهم أكثر من أي شـيء آخـر.

وهنـا لا بـد من الإشـارة أيضـاً إلى المواقف الإيجـابيـة للقيادات اللبـنانيـة المسـلمـة، الدينيـة منها والسـياسـية، والتي أدت إلى تطويق ذيـول تلـك الفتنـة المنظمـة وقطـع الطريق أمـام التدخـل الخـارجي تحت عناوين وشـعارات، ظـاهرهـا بـراق وجوهرهـا قتـل وتدمـير وفنـاء.

أمـا بالعـودة إلى قلب الحـدث، فتبين أن عـدد الموقوفين قـد تجـاوز الـ (174) شـخصـاً، كان مـن بينهـم نحـو (76) سـوريـاً، (35) فلسـطينيـاً، (25) من دون جنسـية و (38) لبـنانيـاً.
واتضـح مـدى تنظيمهـم وتحضيرهم لمثل تلـك الأعمال التخريبيـة من أجل عرقلـة مسـيرة التقـدم التي يخطوهـا الشـعب اللبـناني خطـوة خطـوة، وفي كل خطـوة يدفـع ثمنهـا دمـاً ودموعـاً..

إن التصميم من قبل البعـض بإعـادة عقارب السـاعة في لبـنان إلى الوراء بات واضحـاً أكـثر من أي وقت مضى، ولن يتمكن اللبـناني من الحصول على سـيادته وحريتـه واسـتقلالـه وأمنـه إلا من خلال تمسـكه بوحـدتـه الوطنيـة، تلـك الوحـدة التي صنعهـا بتضحيـات أبنـائـه (كل أبنائـه) وعلى مـر ربـع قـرن.

فإن كان الاحتـجـاج على هـذا النحـو وباسـم الدين أيضـاً، فتلـك جريمـة بحق الديـن لا تغتفـر، وجريمـة بحـق الشـعب والوطـن لا يجـوز التغاضي عنهـا وإنمـا معاقبـة كل الذين شـاركوا فيهـا ليكونوا عبرة لغيرهم.

ومـا حصل الأسـبوع الفائت في العـراق، من تعـد سـافر على الكنائـس المسـيحيـة وعلى ممتلكات وكرامات وأعراض أبنائهـا ومواطنيهـا تحت نفس الحجج والشـعارات، وما سـبقـه من تعديات بشـعة بحق المسـالمين الأبريـاء في المنطقـة دون أي رادع أو وازع، نجـده تتمـة للحلقـات المرسـومة والمدروسـة، ممـا يجعل المرء يفكـر مليـاً يقف أمـام هكـذا تطورات مصيريـة ويعمـل بخطى ثابتـة وواثقـة من أجـل تشـكيل “هيئـة” أو “مؤسـسـة” مـشـتركـة تتألف من قيادات هـذه القوميـات والمذاهب المسـيحية في الشـرق، لتكون تلـك “الهيئـة” قـادرة على “تفعيـل” القواسـم المشتركـة فيمـا بين بعضهـا البعض من جهـة، ومن أجل إعـادة لغـة المنطـق والعقـل والحكمـة مع الشـريك الآخـر  المعتـدل من جهـة ثانيـة.
وغـير ذلـك، ستبقى المسـيحيـة المشـرقيـة مهـددة يومـاً بعـد يـوم، وبوسـائل أشـد قسـوة وتنكيـلاً، ممـا قـد ينعكس سـلبـاً على مسـتقبلهـا ويـزيــد من هجـرة شـبابهـا وشـابـاتهـا بحثـاً عن الأمـن والأمـان والحريـة والسـيادة والاسـتقلال.

إن الاكتفـاء ببيـانات الاسـتنكـار أو الشـجب من هنـا وهنـاك، لن يجـدي نفعـاً وإنمـا سـيزيـد الأمـور تعقيـداً وبالتـالي سـيزيـد من قلـق وخـوف أبنـائنـا وسـيحـول تفكيرهم وبوصلـة حيـاتهم نحـو الأماكن التي يرون فيهـا الأمـان والإطمئنان متوفرين، ممـا قـد يـؤدي (لا سـمح الله) إلى تفريغ المنطقـة من سـكانهـا الأصيلين أكثر ممـا هي عليـه اليـوم، وسـينجح النهج المتطـرف والمتخلف والمتحجـر على لغـة الحكمـة والعقـل والاعتـدال، وبمعنى آخـر سـنفسـح المجـال لرجحـان كفـة الشـر على الخـير من حيث ندري أو لا ندري

غســان يونان
06/02/2006

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.