شذى توما مرقوس
خَلْفَ السَرَاب ……
24 /07 / 2010
http://nala4u.com
بقلم : شذى توما مرقوس
الأحد 14 ـ 6 ـ 2009 / الثلاثاء 1 ـ 6 ـ 2010
يَسْعَى
الإِنْسَان لأَنْ يَكُونَ مَشْهُوراً ومَعْرُوفاً ومَرْمُوقاً ، ويَسْعَى
أَيضاً لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهِ بَعْدَ مَماتِهِ ، ويُرِيدُ الحَيَاةَ
الأَبَدِيَّة ويَسْعَى إِلَيْها ……. أَلاَ يُمْكِنُ التَنازُل عن
حُلُمِ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة ، وهَلْ هي ضَرُورَةٌ ، أَمْ وَهْمٌ رَافَقَ
الإِنْسَان وعَمِلَ الكُلُّ على تَأْكِيدِهِ حَتَّى الأَدْيان ……
ولِماذَا الخَوْفُ مِن العَدَمِ ؟ رُبَّما لأَنَّ العَدَمَ يُمَثِّلُ
لِلإِنْسَانِ المَجْهُول ….. ففي العَدَمِ وبِمَفْهُومِ الصُوْرَة
المَرْسُومةِ في ذِهْنِ الإِنْسَان لايُوْجَدُ نَكِرَة ولامَعْرِفَة
…… العَدَم فَرَاغ وتَلاشِي ……
يَسْعَى الفَنَّانُون لأَنْ يَكُونُوا مَشْهُورِين جِدَّاً
وخَاطِفِيّ الأَنْظَار ، يَسْعَى الكُتَّاب مُتَسابِقينَ لِلكِتابَةِ
والنَشْرِ بُغْيَة الشُهْرَة ، يَسْعَى الرُّؤَساءُ والمُلُوك لِنَشْرِ
نُفُوذِهُم واشْتِهارهم في كُلِّ الأَرْضِ ، وتَثْبِيتِ حُكْمِهم
وسُلْطانِهم لِتُخَلَّدَ أَسْمَاءَهُم في جَداولِ التَأْرِيخ ، يَسْعَى
الكَثِيرُون لإِنْجابِ المَزِيدِ مِن الأَطْفالِ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِهم
والدَفْعِ بِأَسْمَائِهم لِلأَجْيالِ الأُخْرَى القَادِمَة ؛ رُبَّما
عَلَيْنا كَبَشَر إِعادَةَ النَظَرِ في مَكْنُوناتِ فَهْمِنا لِمُفْردَاتِ
العَدَمِ ، الخُلُودِ ، الحَيَاة الأَبدِيَّة ، الشُهْرَة ، المَجْد
……
ماكرينوس ، مارلين مونرو ، كُثير عزة ،
والقَائِمَةُ تَطُولُ وتَتْرَى بِالأَسْمَاءِ ، أَسْمَاءُهم لازَالَتْ
مُتداوَلَة ؛ لكِنْ مَنْ مِنَّا يُفَكِّرُ حِيْنَ يَتَداوَلُ الحَدِيثُ
عنهم في شُخُوصِهِم كَبَشَر ، كَأَحْياءٍ عَاشُوا حَيَاةً مُتْرَعَة
بِالأَنْفاسِ ، مَنْ مِنَّا يُفَكِّرُ ولَوْ في لَحظاتٍ مِنْ وُجُودِهم
عَاشُوها وعَانُوا وتَفَاعَلُوا مَعَ ما يُحِيطُ بِهم ، مَنْ مِنَّا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَوَسَّطَ ولَوْ لِلَحظاتٍ بَعْضَ مَقاطِعِ حَيَاتِهم
بِتَفاصِيلِها الكَبِيرة والصَغِيرة ……. الذِّكْر يَبْقَى لِلأَسْمِ ،
والإِنْسَان كَكِيانٍ مَوْجُود بِتَفاصِيلِ يَوْمِياتِهِ الحَيَاتِيَّة
يَنْمَحِي ، أَيْ هُناكَ وَهْمٌ كَبِير نَعِيشُهُ بِخُصُوصِ هذهِ
المُفْردَات ….. كَمْ جِيلاً سَيَتَذَكَّر هذهِ الأَسْمَاء ، وما مَدَى
أَهمِيَّة هذهِ الأَسْمَاء لَدَى كُلِّ جِيل ….. لَقَدْ كانَ كُثير عزة
مُهِمَّاً في زَمانِهِ وبِيئَتِهِ ، لكِنْ هَلْ لَهُ نَفْس الأَهمِيَّة
والشُهْرَة لَدَى جِيلَنا اليَوْم ، وهَلْ تَعْرِفه كُلُّ الدُنْيا أَمْ
شُهْرَتَهُ مُحَدَّدَة بِمَناطِق أَوْ بُلْدَان مُعَيَّنَة ، وأَسْمَاءَ
كَثِيرةَ نَالَتْ حُظْوَةً وشُهْرَةً كَبِيرَة في وَقْتِها وزَمانِها ،
مَنْ يَأْبَهُ لَها الآن ؟ هَلْ نَعْرِفُ عن أُغْنِيَّةٍ مِن العُصُورِ
المُوغِلَة في القِدَمِ أَوْ مِن العَصْرِ الأَكدِيّ مَثَلاً ، شَيْئاً ؟
هَلْ حَفَظَ لَنا التَّأْرِيخُ ولَوْ بِضْعَةَ أَسْمَاءٍ لِفَنَّانِين مِنْ
زَمَنِ المَلِكَة زنوبيا أَوْ بلقيس .
كُلُّ شَيْءٍ
إِلى زَوال ، والذِّكْرُ الأَبَدِيّ وَهْمٌ وسَرَاب ، كَوْكَبُ الأَرْضِ
نَفْسُهُ مُعَرَّضٌ لِلفَناءِ يَوْماً ما ، فأَيْنَ سيَذْهَبُ الذِّكْرُ
والخُلُودُ حِيْنَها ، هَلْ لِلكَواكِبِ الأُخْرَى ؟
تَسْتَهوِي
النَّاسُ القِمَم ، فهي في الوَعْي البَشَرِيِّ الصِنْو والقَرِين
لِلعُلْوِ والرِفْعَةِ والعَظَمَةِ ، فتَرَاهُم أَحَدَهُم يَصِفُ الآخر
بِأَنَّهُ قِمَّةٌ عَالِيَة ، لاأَحَدَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ سَهْلاً ،
مابَالُ السُهُول ، ما عَيْبَها ؟ هي خَصِيبَة ومُتواضِعَة وتَحْتَضِنُ
النَاسَ لِلعَيْشِ فيها بِأَمانٍ ، هَلْ يَجِبُ أَنْ نَكُونَ في القِمَّة ،
ماعَيْبُ السُهُول المُنْخَفِضَة وهي دَلِيلُ البَساطَةِ والتَواضُعِ
والخُصُوبَةِ ، كُلَّمَا كانَت الجِبالُ شَاهِقَةً كُلَّمَا صَعُبَتْ
عَملِيَّة التَنَفُّس وصَارَتْ مُرْهِقَة …….
كُثْرٌ هُم مَنْ يَرْغَبُون في أَنْ
يَكُونُوا نُجُوماً ، فالنُجُومُ عَالِيَةٌ بَراقَة ، لايَطالُها أَحَدٌ
ويَحْسُدُها الكَثِيرون ….. والنُجُوم في الفَضَاءِ ….. الرَّبُّ
أَيضاً يَسْكُنُ السَماء ، هكذا نَسْتَشِفُّ إِنَّ الإِنْسَان يَصْبُو
لِيَكُونَ إِلَهاً بِشَكْلٍ ما ، فالرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الإِلَهُ
المُتَوَّج على العَرْشِ في أُسْرَتِهِ ، وزَوْجَتهِ وأَوْلادهِ
يَأْتَمِرُون بِأَمْرِهِ ، والحُكَّام يَعْتَبِرُون أَنْفُسَهُم ظِلُّ الله
على الأَرْضِ ، أَوْ وُكلاء الإِلَه على الأَرْضِ وإِنْ لم يُصَرِّحُوا
بِذلك عَلانِيَّة ….. وحُرَّاس السُجُون يَتَشَدَّقُون بِمَسْلَكِهم
كآلِهَة مَعَ نُزَلاءِ السُجُونِ ، والضُبَّاط في الجيُوشِ يُمارِسُون
صِيغَةَ الحُكْمِ الإِلَهِيَّة أَيضاً مَعَ الجُنُودِ ، والأَمْثِلَة
لاتَنْتَهِي ……….
هَلْ ذَاكِرتنا خَالِدَة ، لِيَكُونَ ما عَلِقَ فيها خَالِدَاً ؟
يُناضِلُ
الإِنْسَانُ مِنْ أَجْلِ وُجُودِهِ وبَقائِهِ حَيَّاً في ذَاكِرَةِ
الآخرين ، لأَنَّ نِسْيانَهُ عن ذَاكِرَةِ الآخرين يَعْنِي لَهُ فَناء ،
ويَنْسَى إِنَّ ذَاكِرَةَ الآخرين هذهِ والَّتِي يَتَشَبَّثُ بِها ، هي
أَيضاً إِلى زَوالٍ يَوْماً ما …..
أَنا أَتَذكرُ جَدَّتي ، لَكِنَّ أَوْلادي
رُبَّما لن يتَذَكَّرُوا أَوْ يَتَعَرَّفُوا حَتَّى على اسْمها ، أَيْ إِن
ذِكْرَها سيَنْتَهي بِتَلاشِي وزَوالِ ذَاكِرَتي بِمَوْتي .
يَعْرِفُ الإِنْسَان ويُدْرِكُ أَنَّ المَوْتَ
قَدْ غَلَبَهُ وقَهَرَهُ فلا مَفَرَّ لَهُ مِنْهُ ، ولِهذا فهو يَدُورُ
حَوْلَ الحَقِيقَة لِيُخَفِّف مِنْ مَرارَتِها بِمُحاوَلَةِ بَقائِهِ
واسْتِمْرَارِهِ ولَوْ رَمْزِيَّاً في الحَيَاةِ مِنْ خِلالِ عَيْشِهِ في
ذَاكِرَةِ الآخرين ، سَواءً بِإِنْجابِ الأَطْفال الَّذِين يَحْمِلُون
إِسْمَهُ ، أَوْ سَعْيِهِ لِيَكُونَ نَجْماً في عَالَمِ الفَنِّ ، أَوْ
الأَدَبِ ، أَوْ ……. إلخ ، لَكِنَّ الحُلُم يَبْقَى قَاصِرَاً
وعَاجِزَاً عن تَحْقِيقِ ما يَرُومُ لَهُ الإِنْسَان ….. فحَتَّى
الذِكْرَى قَصِيرَة ، وحِيْنَ يَمُوتُ مَنْ يَحْمِلُونهُ في ذَاكِراتِهم
أَيضاً يَكُونُ قَدْ طَوَاهُ النِّسْيان ، قَصُرَ الزَّمَن ، أَمْ بَعْضُ
الشَيْءِ طَال ……. وهذا يُوَضِّحُ أَيضاً سَعْيَ الإِنْسَان إِلى
اسْتِعمالِ كَلِماتِ التَفْخِيمِ والتَعْظِيمِ أَمْلاً أَنْ يَتَحَوَّلَ
الحُلُم إِلى حَقِيقَةٍ ذات يَوْمٍ ، فنَسْمَعُ على هذا الطِراز عِبارة : ”
فُلان سيَبْقَى خَالِدَاً إِلى الأَبَدِ ” ، أَوْ عِبارات على هذهِ
الشَاكِلَة ونَفْس الوَزْن ، يُرْجَى مُلاحَظَة كَلِمَتي خَالِدَاً ، إِلى
الأَبَدِ ” هاتين الكَلِمَتين لانَصِيبَ لَهُما مِنْ واقِعِ الحَيَاةِ على
كَوْكَبِ الأَرْضِ …. وإِنَّما مِنْ نَسْجِ الخَيَالِ الإِنْسَانِيّ
الَّذِي يَسْعَى لامْتِلاكِ ما لايُمْكِن ، إِلاَّ إِذا تَمَّ التَّوصُل
لاكْتِشافِ وَصْفَةٍ ما ، أَوْ تَقَنِيةٍ ما ، تَجْعَلُ الإِنْسَان يَعِيشُ
بِلامُنْتَهى فلايَكُونُ لِلمَوْتِ مِنْ مَكانٍ في الحَيَاةِ ، هذا
يُذَكِّرُني بِقِصَّتينِ لِلأَطْفالِ كُنْتُ قَدْ قَرأْتُها في طُفُولَتِي
وهي : ( تُفَّاحَةُ الشَبابِ ومَاءُ الحَيَاةِ ) و ( مَسْرُور
ونَبْتَةُ الحَيَاةِ ) ، تَتَحَدَّثان عن هذا الحُلُم الإِنْسَانِيّ ،
حُلُمُ الخُلُودِ ، والبَقاءِ ، والتَغَلُّبِ على المَوْتِ وصَرْعِهِ .
إِنَّ الإِنْسَان قَدْ جَاءَ مِن الطَبِيعَةِ وإِلَيْها سيَعُود
…… فتَرْكِيبَةَ جِسْمِهِ ستَتَحَلَّل وتَتَحَوَّل لِتَمْتَزِج
بِعَناصِرِ الطَبِيعَةِ الَّتِي جَاءَ مِنْها ، فتَلْتَصِقُ ذَرَّة مِنْهُ
بِجَذْعِ شَجَرَةٍ ، وأُخْرَى تَذُوبُ مَعَ مُكْوِناتِ المَاءِ أَوْ
الهَواءِ ، وثَالِثَةً بِالتُرَابِ ، ورَابِعَةً بِوَرْدَةٍ أَوْ جَبلٍ
…. إلخ .
الإِنْسَان كَالمَاء يَتَبَخَّر لِيَتَكَثَّف
ثُمَّ يَعُودُ مَعَ المَطَرِ قَطرَاتٍ تَتَساقَطُ على كُلِّ الأَماكِنِ
والسَاحاتِ ، بِلاحُدُودٍ ، بِلا أَوْطان ، فكُلُّ الأَرْضِ وَطَنٌ واحِدٌ
.
الإِنْسَانُ كَائِنٌ طَمُوحٌ لِحدِّ
الطَمَعِ ، قَدَماهُ مُثْبَتَتان في الأَرْضِ وبَصَرَهُ مَشْدُودٌ
لِلسَماءِ ، ولِذَا يَصْعُبُ الطَلَبَ إِلَيْه بِأَن يَكُفَّ عن مَسْعَاه
لِنَيْلِ الشُهْرَةِ والمَجْدِ والخُلُود ، ولَكِنْ في الوَقْتِ ذاتهُ
يَجِبُ أَن لا يُحِيلَ هذا المَسْعَى إِلى هَدَفٍ في حَيَاتِهِ فيَحْبِسُ
نَفْسَهُ في قَفَصِهِ ، على الإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ لابِهَدَفِ
الخُلُودِ والمَجْدِ والشُهْرَةِ ، بَلْ بِهَدَفِ البِنَاءِ وإِعْلائِهِ
كَخِدْمَةٍ خَالِصَة مَحَبَّةً لِلآخَرِين وللكَائِناتِ والكَوْكَب ،
الأُمُّ تيريزا كَانَ هَدَفُها الخِدْمَةَ والمَعُونَة أَساسها التَواضُعَ
والمَحَبَّة …. لم تُخَطِّط لِشُهْرَةٍ أَوْ خُلُودٍ ، لَكِنَّ
أَعْمالَها جَعَلَتْها مَعْرُوفَة في كُلِّ بُقْعَةٍ على وَجْهِ
البَسِيطَةِ ، المَهاتما غاندي مِثالٌ آخر ، وغَيْرهُم العَدِيد .
كُلَّمَا ازْدادَ الإِنْسَان عِلْماً ومَعْرِفَةً ازْدادَ تَواضُعَهُ .
كَثِيرٌ
مِن العُلماءِ لم يَكُنْ في خَاطِرِهم مَيْلٌ لِشُهْرَةٍ أَوْ خُلُودٍ ،
لَكِنَّ أَعْمالَهُم حَفَظَتْ أَسْماءَهُم بِقَدْرِ ماخَدَمُوا المَسِيرَة
البَشَرِيَّة ، ماندل ، ايمي نويثر وغَيْرهُم كَثِيرُون ……. لَكِنَّ
السُّؤَال لن يَتَغَيَّر ويَبْقَى كما هو عن الخُلُودِ والمَجْدِ والأَبَدِ
، بَيْنَما كَوْكَبُ الأَرْضِ مُحَتَّماً إِلى زَوال .
سُورُ الصِين لم يُقام
دُفْعَةً واحِدَة ، بَلْ عَلا البُنْيان حَجَرَةً حَجَرَة ، صُفَّتْ
واحِدَةً فَوْقَ أُخْرَى مِنْ قِبَلِ أَشْخاصٍ اسْتَكْثَر عَلَيْهم
التَّأْرِيخُ حَتَّى ذِكْرِ أَسْمائِهم ، مَاتَ الكَثِيرُ مِنْهُم وهُم
يَبْنُون فيه ، لم يَحْفَظْ إِسْماً ولَوْ لِواحِدٍ مِنْ هؤلاء العُمَّال
البُسطاء الكَادحِين .
الأَهْرامات ، كَما يُرجِّحُ
بَعْضُ البَاحثِين ، بَنَاها العَبِيد ، لَكِنَّها تُذْكَر مُقْتَرِنَة
بِذِكْر المُلُوكِ .
وهكذا الجَنائِنُ المُعَلَّقَة ،
هَلْ بَنَاها نبوخذ نصر ، أَمْ كَانَت جُهُود آلافِ العُمَّالِ الصِغارِ
المُتَواضِعين حَتَّى غَدَتْ مِنْ عَجَائِبِ الدُنْيا السَبْع .
الذَاكِرةُ الإِنْسَانِيَّة مَثْقُوبَةٌ
ومَخْرُومَة ، وكُلُّ مَنْ يَنْزَلِقُ مِنْ هذا الثَقْب وعِبْرَهُ يَقَعُ
إِلى عَالَمِ النِسْيانِ …..
كُلُّ الأَعْمالِ الشَاهِقَة هي نِتَاجُ
تَرَاكُمِ جُهُودِ أَشْخاصٍ كُثْر ، ونِتَاجُ أَعْمالٍ صَغِيرَة
تَرَاكَمَتْ فَوْقَ بَعْضِها بِمُرورِ الزَمَنِ وتَكاثُفِ الجُهُودِ
فغَدَتْ كَبِيرَة .
يُرِيدُ كُلٌّ مِنَّا أَنْ
يُنْجِزَ عَمَلاً كَبِيرَاً ، كَبِيرَاً جِدَّاً في حَيَاتِهِ ،
والحَقِيقَة إِنَّهُ لَيْسَ هُناك مُتَّسَعٌ لِلأَعْمالِ الكَبِيرَة في
الحَيَاةِ …. فالحَيَاةُ في تَفْاصِيلِها هي عِبارة عن أَعْمالٍ
وإِنْجازاتٍ صَغِيرَة مُتَتَالِية ومُتَتَابِعَة يُؤَدِّي بِالتَالِي
تَراكُمَها إِلى إِنْجازاتٍ كَبِيرَة ….. هذهِ الإِنْجازَاتُ الكَبِيرَة ،
كُلُّ جُزْءٍ أَوْ بَعْضُ أَجْزاءٍ مِنْها يَكُونُ نِتَاج فَرْدٍ ما في
المُجْتَمعِ ، ولايَكُونُ هذا العَمَلُ الكَبِير نِتَاجُ فَرْدٍ واحِدٍ
فَقَطْ .
يُدْرِكُ الإِنْسَانُ جَيِّداً
إِن قِيمَتَهُ غَيْر مُتفَرِّدَة ولِهذا يُحاوِلُ طَوالَ حَيَاتِهِ صُنْعَ
مَجْدٍ لِقِيمَتِهِ ، بَلْ ويُحاوِلُ إِثْباتَ إِنَّهُ كَبِيرُ الشَأْنِ
والقِيمَة ، لَيْسَ بَيْنَ أَقْرانِهِ مِن البَشَرِ ، بَلْ وبَيْنَ جَمِيعِ
الكَائِناتِ الأُخْرَى الَّتِي تُقاسِمه الحَيَاة فَوْقَ هذا الكَوْكَب .
وفي مُسَلْسَلِ الحُلُم البَشَرِيّ بِالخُلُودِ تَتَمثَّلُ
الحَيَاة الأَبَدِيَّة كَمَحطَّةٍ أَخِيرَة ، مُمْتَدَّة ، مَفْتُوحَة على
اللانِهايَة ، فالحُلُم البَشَرِيّ بِالخُلُود يَكْرَهُ النِهايَات حَيْثُ
تَصُبُّ في النِسْيانِ والفَناءِ والعَدَمِ ، مَحطَّةٌ مُهِمَّة ومُثِيرَة
احْتَضَنَتْها بَعْضُ الأَدْيان بِوَجْهٍ خَاص ، وأَضْفَتْ عَلَيْها
نَظْرَتَها وأَبْعَادَها وتَأْوِيلاتَها وشُرُوحَها ، وحَوَّلَتْها إِلى
ضَرُورَة وقُدْسِيَّة كَحَالِ الكَثِيرِ مِن الأُمُورِ الأُخْرَى .
تَقِفُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّة في
خَاتِمَةِ الرِحْلَةِ الحَيَاتِيَّة الإِنْسَانِيَّة كَتَتْوِيجٍ ، أَوْ
مُكافَأَة لِمَسِيرَةٍ عَجَّتْ بِالصَبْرِ والانْتِظارِ ، حَيَاةٌ
بِخَصائِص أُخْرَى لَكِنَّها في الوَقْتِ ذاتِهِ لا انْتِهاءٌ وامْتِدادٌ
وتَتْوِيج لِلحَيَاةِ الأَرْضِيَّة ، حَيَاةٌ تَمْتَدُّ ولا تَنْتَهي ولا
مَكانَ لِلفَناءِ والعَدَمِ فيها .
أَما نَضَجَتْ ثِمارُ
المَعْرِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ بِبَعْضِ كِفايَةٍ لِلتَفْكِيرِ بِأَنَّ
الحَيَاةُ الأَبَدِيَّة يَجِبُ أَنْ لا تَبْقَى ضَرُورَة وحَتْمِيَّة
لِلإِنْسَان ؟
رُبَّما
عَلَيْنا تَصْحِيح المَقاييس الَّتِي نَنْظُرُ بِها إِلى الأُمُورِ مِنْ
خِلالِها وتَقْييمِها ، والرُكُون إِلى أُسُسٍ جَدِيدَة لِمَقاييسنا هذهِ ،
لِتَنْفَتِح أَمامنا عَوالِمَ جَدِيدَة أَكْثَرُ مَرُونَةً ، تَرْتَفِعُ
بِنا فَوْقَ حُدُودنا الفِكْرِيَّة الضَيقَة وتُوَسِّعَها ، فيُزاحُ الخَلل
عَن أَجْهِزةِ قِياساتِنا ، عَوالِمَ جَدِيدَة وآفاقَ أَوْسَع وأَكْثَر
جَدْوَى ونَفْعاً لِلكَائِناتِ أَجْمَع بِلا اسْتِثْنَاء .
الحَيَاةُ
الأَبَدِيَّة تَحْتَ مِظَّلةِ بَعْض الأَدْيان تَحَوَّلَتْ إِلى قِيمَةٍ
عُلْيَا ، ومُنَىً ، ومُبْتَغَى يَسْعَى إِلَيْها الكَثِيرُون بِجُنُونٍ ،
فبُخِسَتْ قِيمَة الحَيَاةِ الأَرْضِيَّة كَدَارٍ لِلعَمَلِ والتَفاني
المُخْلِصِ مِنْ أَجْلِ الآخَرِين والكَوْن والكَوْكَب إِلى دَارِ فَناءٍ
وبُطْلان ، وحَوَّلَتْ الكَثِيرين إِلى قَنابِل مُتَنَوِّعَة : قَنابِل
انْتِحارِيَّة مُتفَجِرَّة ومُفخَّخات ، قَنابِل فِكرِيَّة ، اجْتِماعِيَّة
……. إلخ ، قَنابِل انْتِحارِيَّة تَهْدِمُ الكَوْكَب والحَيَاة فيهِ
وتَقْتُل مَلايين الضَحَايَا الأَبْرِياء ، بَيْنَما يَظُنُّ الفَاعِل
إِنَّهُ يُعَبِّدُ طَرِيقَ رِحْلَتِهِ إِلى الحَيَاةِ السَماوِيَّة
ويَسْتَعْجِلُ بُلُوغَها بآلافٍ مِنْ جُثَثِ الضَحَايَا مِن الأَبْرِياء ،
وأُخْرَى فِكْرِيَّة تَعْبَثُ في عُقُولِ ضَحَايَاها فَسَاداً ………
وأُخْرَى وأُخْرَى ، وَهْمٌ لاحُدُودَ لَهُ ولانِهايَات ، ولا يَجْلِبُ
إِلاَّ الخَرَابَ والتَدْمِير .
تَنْتَصِبُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّة كَحُلُمٍ
مُخادِعٍ جَمِيلٍ يَقُودُ ويَسُوقُ جُمُوعاً مُؤَلَّفَة ، زَرَافات
ووُحدانا ، إِلى المَوْتِ جَارَّةً وَرائها ضَحَايَا أَبْرِياء ، أَوْ
يَتْرُكُ الحُلُمُ خَلْفَهُ أُناسٍ عَاطِلينَ مُعَطِّلِين طَاقَاتَهم
وقُدراتَهم بِانْتِظارِ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة في ظَنِّ الحَيَاةِ
الدُنْيا حَيَاة فَناء .
حُلُم الحَيَاة الأَبَدِيَّة لم
يُثْرِي حَيَاة الإِنْسَان الأَرْضِيَّة ، بَلْ أَفْقَرها وأَفْرَغَها مِنْ
مُحْتَواها ومَعْنَاها ومَسَحَ بِقِيمَتِها وَجْهَ الزَمَن .
الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة قَتَلَتْ قِيمَة
الحَيَاة الأَرْضِيَّة وقَضَتْ على أَهَمِّيتِها وأَهْلَكَتْها ،
وجَعَلَتْها حَقَّاً دَار فَناءٍ وبُطْلان .
إِن على الإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى
لِيَعِيشَ حَيَاةً مُفِيدَة تَخْدِمَهُ وتَخْدِمُ مَنْ حَوْلَهُ مِن
الكَائِناتِ أَجْمَع ، وحِيْنَ يَحِينُ وَقْتُهُ يَرْحَلُ أَمِناً تَارِكاً
للآخَرِين مُواصلَة المَهَمَّة .
أَنا لا أُرِيدُ الحَيَاةَ الأَبَدِيَّة وأَرْفُضُها ، تَكْفِيني حَيَاتي الأَرْضِيَّة .
على
دَعْوَةٍ لإِعادَةِ النَظَرِ في مَفْهُومِ هذهِ الكَلِمات : الخُلُود ،
الشُهْرَة ، الحَيَاة الأَبَدِيَّة ، المَجْد ، العَدَم ، أُفَارِقَكُم
عَزِيزاتي ، أَعِزَّائي مِن القَارِئاتِ والقُرَّاء ، دُمْتُم بِخَيْرٍ
وسَلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إِشارات :
1
ــ كُثير عزة : شَاعِرٌ مِن العَصْرِ الإِسلامِي والأَموِي ( 625 م ـ 750
م ) . 2 ــ ماندل : العَالِم الَّذِي وَضَعَ قَوانِينَ عِلْمِ
الوِراثَة .
3 ــ ايمي نويثر :
عَالِمَة رياضيات أَلمانِيَّة مَشْهُورة بِإِسْهامِها العِملاق في الجَبْرِ
المُجَرَّد والفِيزياء النَظَرِيَّة ، وَصَفَها كَثِيرٌ مِن العُلماءِ ،
ومِنْهم ألبرت اينشتاين ، أَهَمُّ امْرَأَة في تَأْرِيخِ الرياضيات .
قَامَتْ
بِثَوْرَةٍ جَبَارة في الجَبْرِ المُجَرَّد بِفُرُوعِهِ : الرَّمْز
والحَلَقَات والحُقُول ، وفي الفِيزياء كَانَتْ ” مُبَرْهَنَة نويثر ”
أَوْل أَساس لِوَصْفِ الصِلَةِ بَيْنَ التَناظُرِ وقَوانِينِ حِفْظِ
الطَاقَةِ .
وُلِدَتْ في 23 ـ مارس ـ 1882 ، وتُوُفِّيَتْ في 14 ـ
ابريل ـ 1935 ، عن عُمْرٍ يُنَاهِزُ 53 عَاماً .
المَصْدَر : شَبكة جَرِيح القَلْب ، قِسْم : عُلماء رِياضِيون ، العَالِمَة ايمي نويثر .
www.jan7.com/famous/show-311.html
4 ــ ماكرينوس : هو ماركوس أوبيليوس ماكرينوس ، امْبِراطُور رُوماني .
Marcus Opellius Macrinus
(
حَوالِي 165 ــ 218 حزيران / يونيو ) ، وكَانَ امْبِراطُوراً
رُومانِيَّاً لأَرْبَعة عَشر شَهْراً في 217 و 218 ، ماكرينوس هو أَوَّل
مَنْ يُصْبِح امْبِراطُوراً دُوْنَ العُضوِيَّة في الطَبقَةِ السِيناتُورية
وهو يَعُودُ لأَصْلٍ بَرْبَرِيِّ .
المَصْدَر : ويكيبيديا ـ المَوسُوعة الحُرَّة ـ الأَباطِرة الرُومان .