نورا للامم

بقلم جورجينا بهنام
نورا للامم

21 /08 / 2009
http://nala4u.com

عبر تاريخها الطويل لطالما كانت الكنيسة مصدراللاشعاع الفكري والثقافي والحضاري،وما فتئت تمارس دورا رياديا في نشر العلوم والفنون والآداب.
وعلى مدى السنين كانت الكنيسة والمؤسسات الواقعة تحت ادارتها المباشرة وغير المباشرة،الينبوع الثروالمعين الغني الذي ينهل منه كل راغب في العلم وطالبٍ للثقافة،ما اشتهى من اطايب الثقافات والعلوم والفنون.

في الازمنة الغابرة كانت مدارس الرها ونصيبين بنظامها المتقن واساتذتها الافذاذ وقوانينها التي يندهش من يطلع عليها من فرط دقتها وحسن التدبير والادارة الذي تميزت به،كانت هذه المدارس علما هاما ورائدا في ذلك الزمان.

ولو انتقلنا الى بيت الحكمة الذي انشأه هارون الرشيد وعني به ابنه المأمون لوجدنا جل علمائه من (النصارى)ان صح استخدام هذا التعبير،من السريان والنساطرة الذين ارسل في اثرهم الخلفاء العباسيون ومن اشهرهم الطبيب جرجس بن بختيشوع ورائد الترجمة الطبية حنين بن اسحق وسواهم كثير.
ولو قفزنا الى عصر النهضة الاوربية الحديثة لوجدنا جامعاتها مزدهرة تحت رعاية الكنيسة ورهبانها ولا أدَلَّ على ذلك من الزي الذي يرتديه الخريجون حتى اليوم في جامعات العالم كافة ،شبانا وشابات،وهو ما يحاكي بنوعٍ ما ملابس الرهبان المسيحيين في العصور الوسطى، الامر الذي ما انقطع يثير ما يثيره في نفوس الاصوليين الرافضين لارتداء الخريجين لهذا الزي لانه يحاكي ثياب الرهبان.

رعاية الكنيسة للفن والفنانين هي التي حولت الكثير من المدن الاوربية الى متاحف حية بكنائسها وكاتدرائياتها الرائعة العمران والمزينة بالايقونات البديعة والمنحوتات المتقنة والرسوم الخالدة على جدرانها وسقوفها، والتي قضى من اجلها فنانون عظام مثل ليوناردو دافنشي ورافاييلو ومايكل انجلو سنين مستلقين على ظهورهم على(اسكلات) عالية لتحقيق هذه الانجازات.

فلو اردنا ان نتحدث عن دور الكنيسة في البناء الحضاري بوجه عام لما وسعت الصفحات لما ينبغي ان يقال في حقها. فعلى مدار السنين ادارت الكنيسة ورهبانها وراهباتهاعددا لايحصى من المدارس في انحاء متفرقة من العالم،أمّها طلاب العلم من مختلف الانتماءات والمشارب،وخرجت اجيالا من العلماء والادباء والاطباء والمهندسين البارعين في اغناء الحياة،وفي العراق كانت هذه المدارس موجودة حتى الغاها التاميم عام 1974.

ولهذا ولكثير غيره،اصبح السؤال ملحا،اين نحن من كل هذا؟ اين كنيستنا اليوم واعني في العراق بالذات من كل هذا؟ وارجو الانتسرع في تعليق الموضوع على شماعة الظروف الامنية والوضع المتازم وسواها،كما كان الحال عليه في الماضي عندما كانت ترمى كل المصائب على رأس الحصار الاقتصادي(المفروض على بلدنا) ليكون سببا لكل صغيرة وكبيرة من مشاكل العراق والعراقيين.

الكنيسة التي تعتز بلغتها الام،وتباهي العالم انها تتكلم لغة المسيح،تركت تراثها وهجرت ثقافتها،وحولت حتى قداديسها الى لهجة العامة الدارجة المحكية، واصبحت السريانية الفصيحة غريبة على اهلها الذين باتوا لايفهمون لغتهم الام،بعد ان صار لكل قرية (لغة)اعني لهجة خاصة بها يتكلمون ويقدسون قداديسهم بها(لم يبق الا ان يكون لنا قداس باللهجة البغدادية والمصلاوية!!!) بعد ان كان القداس وكل الطقوس الكنسية مصدرا لتعلم اللغة الام،كونه بلغة صافية نقية فصيحة صافية،ربما ليكون ذلك ضمن الاتجاه العام نحو الركاكة والهشاشة بدعوى التبسيط.

ثم اين المدارس التي تديرها الكنيسة، نسمع الكثير عن امثال تلك المدارس في سوريا ولبنان والاردن،فلماذا لاتكون كذلك في العراق، فالوضع الامني لم يعد حجة مقبولة كما ان المناطق الآمنة وشبه الآمنة كثيرة،وليس كل العراق جحيما مستعرا،وربما تكون الثقافة ونشرها خير سلاح لردع الافكار الهدامة والوقوف بوجه مروجيها. ثم ان المدارس الاجنبية موجودة وتعمل كالمدرسة الفرنسية والتركية وغيرها،ولها روادها فاين المدارس الكاثوليكية ذات التاريخ العريق.

ولربما يعتقد البعض ان التمويل يشكل عائقا امامها،لكني لااظن،لسببين بسيطين: اولهما ان الاموال موجودة وتصرف ببذخ في امور شكلية لاطائل منها ،ولااريد الخوض في هذا الموضوع.

والثاني ان الناس في بلدنا يحبون العلم ويقدرون الثقافة ومن يدفع ما يوازي ستة الاف دولار كقسط سنوي ليعلم ابنه في مدرسة جيدة ، لن يتوانى عن دفع مبلغ مماثل،وربما اقل بكثير لمدارس رصينة لها مكانتها وقيمتها على مستوى العالم وليس في الشرق الاوسط فقط،تديرها الاخوات الراهبات وهن الاجدر واقدر ولهن في هذا المجال خبرة طويلة سبقت التاميم كما نوهنا سابقا.ثم ان هناك رهبانيات متخصصة في تعليم الصغار وتربيتهم وتنشأتهم النشأة الصالحة.
خلاصة القول ان شبابنا واطفالنا بل وكلنا جميعا بحاجة الى ما يسمى بمصطلحات الحاسوب(refresh) اي لاعادة تنشيط (ولا اقول لاعادة تبشير لئلا يساء فهم المقصود) لايمانهم واخلاقهم وفكرهم، وايقاظ كل الجواهر الثمينة التي غطاها رماد الحروب وازالت بريقها اوحال الارهاب.لتلافي ما يمكن تلافيه واصلاح ما يمكن اصلاحه من الاضرار الفادحة التي لحقت وما زالت تلحق بمجتمعنا الجريح،واعادة التأسيس للبناء الجديد والجيل الجديد على صخرة قوية صلدة هي الكنيسة التي كانت ومازالت مصدرا للاشعاع العلمي والثقافي والفكري وقبل كل ذلك وفوقه الايماني ،ولن يكون ذلك ببضع محاضرات هنا واخرى هناك فالامر محتاج بالفعل لاعادة نظر،كيلا ندع مجالا لتسرب الافكار والعقائد الدخيلة التي تتلبس في بعض الاحيان ثياب المسيح فتطغى على اصالتنا وتراثنا وثقافتنا التي لن نبدلها بالمال مهما كثر. ولتبقى كنيستنا الاصيلة في العراق ملحا للارض لايفسد ابدا (لانه ان فسد الملح فبماذا يملح) ونورا لابنائها وللامم.

جورجينا بهنام
20/08/2009

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, دين. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.