شذى توما مرقوس
مُسَمَّيات وصِفات ………
21 / 01 / 2009
http://nala4u.com
بقلم شذى توما مرقوس
تعّجُ
الحَياة باعْتِبارات ومفاهيم غَيْر مؤطرة تَأْطيراً صحيحاً تتناسبُ
وحَقِيقتها ، والتي بدَوْرِها تؤسس لأفكارٍ وقناعات مغلوطة في وَعْي
ودَواخِلِ الأَفْراد فتلعب دَوْراً لا يُستهان بهِ في الحَياةِ العامَّة
بشكلٍ ما وإلى حدٍّ من الحُدودِ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأشْخاصِ
والظُّروفِ والبيئاتِ وتُمهِدُ لردودِ الأفعالِ التي تبدرُ عنهم كنتيجة
لذلك …… قد لاننتبه لمدى الأَضْرار التي تُخلفها في مَسِيرةِ الحَياةِ
العامّة هذهِ القناعات ونستهين بها وندَّعي قِلَّة تَأْثيرها فيها أو يتمُّ
تجاهُلها ….. قد تَصِلُ آثارها أَحياناً إلى حدودٍ غَيْر مرغوبٍ فيها
دُوْنَ أن نتَمَكَّن من تشخيص ذلك بل يُرَّدُ دائماً لأَسْبابٍ أُخرى
…… منها مانقرأهُ أو نَسْمَعهُ عِبارات دُرِجَ على اسْتِعمالِها مِثْل
” لُغتنا المُقَدَّسة ، هذهِ الحروف للُغتنا المُقَدَّسة ، السَّماءُ
تَنْطِقُ بلُغتِنا ، الأَرْض تَتَكَلَّمُ لُغتنا المُقَدَّسة ….. إلخ من
عِباراتٍ تندرِجُ في هذا السياق وفي هذا المنحى شَأْنَها تعظيم لُغة ما
واضفاءِ صِفة القَداسة عليها ” ……..
لايُمْكِنُ الجزم بخُلُودِ لُغة ما ولا بخُلُودِ إنْسانٍ ما ،
أُمنية الإِنْسان أن يكون خالِداً ، ويُقال أن الحُبَّ كما اعْتِبارات
أُخرى غَيْرَهُ خالِدة ، ولكِن لاشّيْء من هذا خالِد فالكُلُّ إلى مَآل
ونِهايَة ، هذهِ المُسَمَّيات الخُلُود ليس من صِفاتِها وبَعيدٌ عنها
جِدَّاً وبالتَّالي القَداسةُ أيضاً لن تكون من مقاسِها ولا تُلائِمها ،
أنا أتذكَّرُ جَدَّتي ولكِن أوْلادي سيتذكَّرُون جَدَّتهم ( أُمِّي ) وليس
جَدَّتي ، أيّ إنّ ذِكْرَى جَدَّتي تَسْتَمِرُّ لفَتْرَةٍ زَمنيَّة محدودة
ثُم تَنْتَهي وتَزُول بمَوْتِ كُلّ الأشْخاص الَّذِين يتذكَّرُونها ……
صِفةُ
القداسة لا يَجِبُ أن تُعطَى للُغَةٍ أيَّاً كانت ، فاللُّغة من
الإِنْسانِ ومِثْله تَماماً ، تُولَد ، تَكْبُر ، تُعاني العُقْم أو
تتَكاثَر ثم تَضْمَحِلّ ، فلا الإِنْسان مُقَدَّس ولا اللُّغة …….
كُلُّ قَوْمٍ يَفْتَخِرَ بلُغتِهِ لأنّها جزءٌ أَساسي من هويتهِ ، لكِن
يَجِبُ أن لا يُغْتَرَّ بها ويُخْدَعَ فيها ويُعْطِيها صِفات أَكبر من
مقاسِها ويُلْبِسها ثَوْبَ القَداسة ، فالإِيمان بأَوْهام تُصَوَّر على
إنَّها حقائق قد تَقْلِبُ حَياة الكَثِيرين من النَّاس وتُؤثِرُ سلباً
عليهم وحتَّى قد تُحِيلهم إلى أفرادٍ مُضِرِّين للمُجْتَمعِ ولأنْفُسِهم
وتُوقِعهم في مشاكِل مُعقَّدة ومُتشابِكة وتَحرِمهم إمكانيات التقبُّل
والتَّواصُل مع مُجْتَمعات تَخْتَلِفُ لُغاتها عنهم وتُنمي فيهم رُوح
الاسْتِعلاء والازدِراء نحوها باعْتِبارِهم مُتميّزون عنها بالأَفْضَلِ
والأرقى ، وأيضاً الاعتِزاز المُبالغ فيهِ بلُغةٍ مُعينة قد تَجُرُّ
صاحِبَها إلى حدودِ التَطَرُّف والتَجَنِّي على اللُّغاتِ الأُخرى وعلى
المُتَحَدِّثين بها فمقولات كهذهِ تُردَّدُ كَثِيراً على الأَسْماعِ وفي
مُناسبات كَثِيرة ومُخْتَلِفَة لاتَلْبَثُ أن تجِدَ لها موطئاً راسِخاً في
دَواخِلِ الكَثِيرين من المُستقبلين لها فتبني جِداراً وحاجِزاً في هذهِ
النُفُوس بَيْنَ لُغتهم واللُّغات الأُخرى فلُغتهم الأَفْضَل والمُقَدَّسة
وبَقيَّة اللُّغات لاقِيمة لها ولا شَأْن ……
اللُّغة
كائنٌ حَيّ يَعيشُ بَيْنَنا ويَتَنَفَّس معنا وفينا ….. إنّ اللُّغات
وَلِيدة الحاجة الإنْسانيَّة للتَّواصُل مع الآخر وانْبَثَقَتْ عن حاجةِ
المُجْتَمعات البَشَريَّة للتعامُلِ فيما بَيْنَها ( بَيْنَ أَفْرادِ
المُجْتَمعِ الواحِد وكذلك المُجْتَمعات مع بَعْضِها البَعْض ) ، واللُّغة
أيَّاً كانت وفي أَيِّ زَمَنٍ كان تتَفاعَلُ مع المُعطيات الأجتماعية
والحَضَاريَّة وتُرافِقُ التَّغْيِير الحاصِل فيهما فتتَغَيَّر بمعانيها
ومفرداتها وأبعادها اسْتِجابةً لهذا التَّغْيِير وذاك لأنّها مُرتبِطة
بهذهِ التَغَيُّرات والخاضِعة بدَوْرِها لحَتميةِ التَّغْيِير في كل
مُجْتَمع بَشَريّ فإِنّ لم تستجبْ وتتَفاعَل مع هذهِ التَغَيُّرات قد
يتقَلَّصُ تَأْثيرها ويَنْحَسِرُ تدريجياً حتَّى تَزُول وتُهمل أو
تَخْتَفِي أو تتفرع وتتغصن بَعْضها إلى لُغاتٍ أُخرى مُخْتَلِفَة تَماماً
عنها أو تَمُتُّ بشَّيْءٍ من الصِلةِ إليها أو كَثِيرها أو قد تندحِرُ
أَمام لُغاتٍ أُخرى ، فكُلّ لُغة تَعْجِزُ عن أَداءِ وَظِيفتها في
التَعْبِيرِ عن حاجاتِ ومُتطلبات البَشَر في زَمَنٍ ما وعصر ما
ولايُمْكِنُها سدّ مُتطلباتِ وحاجاتِ التَّواصُل البَشَريّ كِفاية تَغْدُو
قاصِرة فيُصِيبها الوَهْن وتتراجع وتَنْحَسِر وتتقَلَّص أو تَخْتَفِي
وتَزُول أو يطرأ عليها التَّغْيِير وفقاً للاحتياجاتِ الإنْسانيَّة والبيئة
والظُّرُوف المُسْتَجِدَّة فتَسْتَجِدُّ فيها مُفردات وتُولَد
مُتَجَدِّدات وتغِيبُ مُصطلحات أُخرى ومُفْردات لم تَعُدْ الحاجة إليها
قائمة …..
لا يُمْكِنُ للُغة أن تكون
مُقَدَّسة ….. هي ضَرُورَة والضَّرُورات ليست ثابتة وخاضِعة للتَّغْيِير
الذي تخضعُ لهُ المُجْتَمعات قَاطِبَةً بإرادة منها أو بدُوْنِها لأنّ
الحَياة في حَرَكةٍ مُسْتَمِرَّة والحَرَكة تُوَلِّدُ التَّغْيِير
والتَّغْيِير يُحَدِّد الضَّرُورات المُسْتَجِدَّة ويُعْرِّفُها ……
هكذا انْحَسَرَتْ السومرية لتَفْسَح المجال أَمام ما تلتها من اللُّغاتِ
فكانت البابلية والأشورية ( المتطورتان عن اللُّغةِ الأكدية ) واللتان
بدَوْرِهما تراجعتا أَمام مدّ اللُّغة الآرامية وهذهِ الأَخيرة بدَوْرِها
أندحرت وتراجعت أمام مدّ اللُّغة العربية ….. وهكذا دَوالَيْك …….
وهذا مِثال من بَيْنِ كمٍّ ….
أن نعت اللُّغة ــ أيّة لُغة ــ
بالمُقَدَّسة يُوقِعُ المُعْتَقِدين بقداستِها في متاهاتٍ هم في غنىٍ عنها
ولا ضَرُورَة لها ، فلا اللُّغة ولا الحروف ولا الإِنْسان بخالِدٍ وكُلُّ
حالٍ إلى مَآل ……… ليَفْتَخِر كُلٌّ بلُغتهِ ولكِن ليُوقِن إنّها
ليست مُقَدَّسة وليَفْسَح المجال لاحتِرامِ وتأمُل لُغات أُخرى أيضاً
فاللُّغة أوجدها لخِدْمَتِهِ ولتَواصُلِهِ مع الآخر ومن يَتَكَلُّم بلُغةٍ
معينة ليس أَفْضَل ممن يَتَكَلَّمُ بغَيْرِها ……. نَعَمْ اللُّغة هي
جزءٌ من هويةِ الشَعْب المُتَحَدِّث بها ، لكِنْ لا يُمْكِنُ قراءتها
وفهمها بمعزلٍ عن الضَّرُورات اليَوْميَّة للشَّعْبِ والتغيُّرات التي
يمرُّ بها في مَراحِلِ تطورهِ وحَياتهِ ويُمكن تَشْبِيه اللُّغة ككائن حَيّ
يَبْقَى قائِماً طالما إنّ أسْبابَ بقائهِ قائِمة ثُم يَزُول بَعْدَ أن
تَنْقَطعَ هذهِ الأسْباب ………
تُميلُ بَعْض المُجْتَمعات إلى
تَحْوِيلِ الكَثِير ممالَدَيْها إلى مُقَدَّسات ( ولو ألقينا نَظْرَة
لوجدنا الكَثِير من المُسَمَّيات لمنصبٍ ما أو فِكرة ما أو مكانٍ ما أو
أمْر من الأُمورِ قد مُنِحت صِفة القداسة حتَّى صارت تُلازمها كيَقِينٍ
لاجدال فيه ) ، والمُقَدَّسات لا يَجُوزُ المساس بها فتَبْقَى جامِدة
لاتَقْبَلُ التطوير ولا النقد ولا التَّفاعُل ولا التَّغْيِير لكِن
الزَّمَن لا يتَوقَّف فيمضي قُدماً تارِكاً خَلْفَه هذهِ المُقَدَّسات
مُسمرَّة في أماكنِها والنتيجة هُوَّة واسِعة بَيْنَ الأثنين …. إنَّ
الشُّعوب التي تُميل إلى ذلك تُعاني الكَثِير من الإِشْكالات وتجُرُّ
أَفْرادها إِلى متاهاتٍ من المفاهيم والتصوُّرات البَعيدَة عن الحَقِيقةِ
والمغلوطة والغَيْر المُفِيدة عمليَّاً وتُعْطِي تَأْثيراً سلبياً في
حَياتِهم ومن خِلالِهم لمُجْتَمعاتِهم فتضرُّ بتقدُّمِها ومواكبة العصر ثُم
الضَّرَر للمُجْتَمعِ البَشَريّ قَاطِبَةً ………..
هل
الهيروغليفية مُقَدَّسة وإن كانت كذلك لماذا انْحَسَرَتْ وافْسحَتْ المجال
لغَيْرِها من اللُّغات ؟ هل السنسكريتية مُقَدَّسة ؟ لماذا إِذنْ غابَت
وتعطلت عن مواكبةِ الإنْسانيَّة لحدِّ يَوْمنا هذا ؟ هل اللُّغة الأنكليزية
أو الألمانية أو الفرنسية أو الأيطالية ………. وإلخ من اللُّغات
مُقَدَّسة ؟ ولماذا لا نَسْمَعُ هذا النعت يُطلق على هذهِ اللُّغات من
قِبَلِ الناطِقين بها ؟ ……..
نزعُ صِفة القداسة عن أيَّةِ لُغة لا يُقلِّلُ
من شأنِها لأنّ كُلّ لُغة منها أدَّت دَوْرَها في وَقْتِها وفي البيئة التي
انْبَثَقَتْ منها فشَكَّلَتْ مَرْحَلَة من مَراحِلِ تَطوُّر الإنْسان
وحَلْقة مُهِمَّة في مُسَلْسَلِ التطوُّر وقَدَّمَتْ خدمَاتها حتَّى أقصى
إِمكاناتها فكانت أَداة التَّواصُل الفَعَّالة ، واللُّغات الحَالِية
تُواصِلُ تَأْدِيَة دَوْرَها إلى أَجلٍ ما ………
إنّ أيَّة لُغة
تَعْجِزُ عن مواكبةِ ضَرُورات الزَّمَن المُتحرِّك والسائر تندحر وتتراجع
أَمام لُغة مَوْلُودة جَدِيدة لها خصائصها ومميّزاتها التي تُساعِدها على
تَأْدِيَةِ دَوْرَها في المُجْتَمعِ الذي تَخْدِمه ، أو تُطمس وتندثر وإن
يتبقَّى منها شّيْء فلرُبَّما الذِّكْرَى على رفوفِ المكتباتِ والمتاحفِ
ومادة للبحثِ العِلْميّ والتاريخيّ وشاهِدٌ على حُقبةٍ زَمَنية من
المَسِيرةِ الإنْسانيَّة ، أو كلُغة تُحْكَى على نطاقٍ ضَيِّق لجماعةٍ ما
في البيوتِ بَيْنَ أَفرادِ الأُسرة الواحِدة والأُسر الأُخرى المُتَحَدِّثة
بها .
إِن نزع صِفة القداسة عن مُسَمَّياتٍ غَفِيرة ومنها
اللُّغة سيدفعُ بنا إلى مفاهيم جَدِيدة وعوالم مُخْتَلِفَة مُتَجَدِّدة
أَكْثَرُ إنصافاً وتعقُلاً وحِكْمَة بحَقِّ أَنفُسنا أولاً وبحَقِّ الآخرين
ثانياً وستُمهِدُ لعوالم أُخرى للتعاملِ مع الآخر بطُرْقٍ حَضَاريَّة
أَكْثَر نضوجاً وستُفضي بنا إلى أَضْواءٍ وأَجْواءٍ تعُود بنَفْعِها على
الجَمِيعِ دُوْن اسْتثِناء وتُساهِمُ ايجابياً في بناءِ المُجْتَمعات
وتُعْطِينا الصُوْرَة الناضِجة لعَالمٍ جَدِيد أَكْثَرُ تَفهُماً وتسامُحاً
مع الآخر يفتحُ البابَ وعلى مصراعيهِ ليحُلَّ السلام في هذا الكَوْكَب
المُضَرَّج بدِماءٍ أُريقت وأُهدِرت تَحْتَ بندِ هذهِ المُسَمَّيات وعلى
مرِّ الأَزْمان ……..
27 ــ 3 ــ 2008 / 17 ــ 9 ــ 2008