بقلم شذى توما مرقوس
طبق الحمص ( قصة قصيرة )
15/ 01 / 2008
http://nala4u.com
الى كُلِ الغرباء في العالم أينما كانوا وحيثُما حلّوا
الى كُلِ من وطأت قدمه أرضاً أُخرى غير الأرض التي أنجبته
الى كُلِ من دُعي أجنبياً عن الآخرين
الى كُلِ من يشعُرُ بالغُربة حتى وهو بين أهلهِ وفي وطنِه
الى كُل البشر وهُم غُرباء عن هذهِ الحياة وفيها
لهؤلاءِ
جميعاً ولكُلِ من تهُمهُ كتاباتي أُهدي هذهِ الحكاية الجدُّ صغيرة..كبيرة،
في آنٍ معا ً ، من مجموعتي القصصية غير المنشورة “حكايات جدُّ صغيرة…كبيرة
” عن الغُربة.
….لم يعُدْ يذكُرُ تماماً ما حدا
به الى ترك الأرض التي أنجبتهُ حتى تطأ قدماهُ أرض هذهِ البِلاد الجميلة
والجميلة جداً الى حد الجمُود.
آه…لقد تذكرَ…إِنّهُ جاءَ هُنا ليُنّقع
الحُمص في الماء لبِضع ساعات ثُمَ يسلُقَهُ ثم يضيفُ اليهِ الملح وبعضَ
الكاري وبعدها يُصبِحُ جاهزاً للبيع. الطبق الصغير بهذا الثمن والمُتوسط
الحجم بثمنٍ آخر. الطبق الكبير بثمنٍ أعلى. لم يتذوق أهالي هذهِ البلاد
الحمص زمناً طويلاً جداً حتى نسوا طعمَهُ وبفضلِ وجُودهِ الآن هنا عادَ
الناس للتلذُّذ بأكل الحُمُص. ليس هذا فقط. على مدى تأريخ هذهِ البلاد لم
يكُن هُناكَ من يغسلُ العدد المُتزايد من الصُحون المُتسِخة…
وأختراع
ماكنة غسل الأواني لم تحلّ المُشكِلة حيثُ أكتظت شوارع هذهِ البلاد كُلها
بالصحون المُتسخة بعد أن أمتلأت كُلُ مخازِنها وهكذا تمّ أستيراده من ضمن
الأحتياجات الأُخرى للبلد كالقمح والنفط وغيرها… أنّهُ شخص في غاية الأهمية
لقد حلّ مُشكلة كانت قائمة على مرّ الأزمان والآن وبفضلِ وُجُودِهِ هنا لم
يعُدْ مُمكِناً العثُور على صحون مُتسِخة….لقد نظُفت البلاد تماماً وحُلّت
المُشكلة وهو مُواظب يومياً على غسل كل ما جدّ من الصحون المُتسخة.
أطلق
في صدرِهِ المشحُون بالمرارةِ والألم ضحكة تهكُم مكبُوتة وباكية ضاغطاً
على الكأس بين يديه فتفتت وأنكسرت وساح عنها الشراب مُلوِثاً أرض الغُرفة
وصرخَ صرخة أنزعاج واقفاً على قدميه …..غسلَ يديهِ وضمّد جُرحَهُ وترك فوضى
ما حدثَ كما هي….فكرّ أن يتصل بصديقته لِتُسعِفَهُ في مُعاناتهِ هذهِ حيثُ
تفاقمت اليوم على إِثرِ خديعة تعرضَ لها من قِبل أحد زُملائهِ في العمل من
مواطني هذهِ البلاد. إستغلَ هذا الرجُل غُربَتَهُ وجَهلَهُ باللغة وأستدان
منهُ مبلغاً (بالنسبة لهُ كغريب عن هذه البلاد يُعتبرُ مالاً وفيراً ) من
المال على أن يعيدهُ إِليهِ حالَ تقاضيه الراتب. رغم أنّهُ كان بحاجة لهذا
المبلغ الا أن ما تعلمهُ بين أهله عن مساعدة الأخرين أضافةً لخجلهِ منعهُ
من قولِ “لا ” لهذا الزميل…لقد فهِم بصعُوبة وبعدَ الحديث المُطّول والشرح
المُمّل والتفصيلي مع الأعتماد على القامُوس أن هذا الزميل مُحتاج ويُريدُ
المُساعدة المالية واليوم توقّع أستردادهُ نقودهُ فأدا به يُفاجأ….هذا
الزميل المُحتاج كذّب الأمر وقالَ بأنّهُ لم يستدنْ قرشاً ولجأ ( س) الى
زميلٍ أخر ليُساعِدهُ في فِهم الأمر فأكدَ لهُ هذا صحة ما فهِمَهُ وأن
زميلهُ المُحتاج ينكرُ ذلك بأصرار حتى أن الأخرين صدقُوهُ وأتهموهُ هو
بالكذب….
لو قال لهُ أنّهُ لن يستطيع ردّ ما أستدانَهُ لأختلفَ الأمر
وما طالَبَهُ أبداً بقرش ولكنّ أنكارهُ كان طعنةً موجهة لذكاء ( س )
وأتهاماً صريحاً لهُ بالبلهِ والغباء….وعادَ ليُفكر هل يتصِلُ بصديقته التي
تُحِبَهُ لكنّهُ لم يُحِبها قط…لقد فقدَ قُدرتَهُ على الحُب …أبداً لن
يُحبّها..هل يتصِلُ بها والساعة قاربت العاشِرة…بالتأكيد أنّها نائمة
….فالبشر هنا كالدجاج تماماً ما أن تدقُ الساعة دقاتُها التسع حتى يُخيّمُ
الموت فلا مصباحاً مُضاءً تلقى ولاتُسمَعُ في الشوارعِ همسة…ولا لأقدامٍ
دبّة. يموتُ الجميع حتى صباح اليوم التالي. بعضَهُم يُفضِلُ الأستفاقة في
اليوم التالي هذا وبعضَهُم يُفَضِلُ الأستغراق في نومِهِ والى الأبد. كُلَ
مساء والساعة لا تتجاوزُ الثامِنة تجِدُ الناس جميعاً يتسابقُونَ للوصُول
الى منازِلهُم حتى تقفرُ الشوارع تماماً . أنّهُم لايشبَعُونَ من الوحدة
التي يعيشُونها نهاراً وهُم بين الأخرين بل يستعجِلُونَ الليل أيضاً لنشر
الصمت القاتل الفاضح للوحدة العميقة التي يحياها كُلَ فردٍ هنا….أهل
بلادِهِ كانوا على النقيض تماماً لا يشبَعُونَ من الضجة . بل كانُوا
يُحيلُونَ الليل أيضاً الى ضجة. لاشئ مقبُول في هذهِ الحياة. كان ينشدُ
الوحدة وهو في وطنِهِ ..لم يكُنْ يفهَمُ قيمةَ وجودهِ بين من كانُوا معهُ .
لم يُفكِرُ أبداً أنّها نعمة . والمعارك الدامية التي كانت تدُورُ رُحاها
يومياً بينَهُ وبين زوجتهُ لسببٍ أو لعدمِهِ ورغمَ كُل ما آلت اليهِ من
نتائجَ مأساوية كانت كُلها تُعبِرُ عن فوضى الحياة وضجِيجَها وتقولُ لهُ
أنّ العالم من حولِهِ مُكتظ بالكثيرين….أنّهُ ليسَ وحيداً ولن يكون وحيداً
أبداً ….كان الأمر مُزعِجاً أذْ لم يكُنْ للضجة من نهاية….ورغمَ شُعُورهُ
القاتل أحياناً بالوحدة وهو بين أهله وشعورهِ بالغُربة بينَهُم
وعنهُم….كانت فوضَى الحياة الخارجية وضَجِيجها وأبواق السيارات وأصوات
الراديوات والمُسجلات التي تملأُ الشوارع والأسواق التي لاتُقفِلُ أبوابها
الا في ساعات مُتأخِرة من الليل ….كُل هذهِ كانت تُلّونُ الحياة وتُضيفُ
اليها بعضَ النُكهة والبهجة وتُزيحُ عنهُ ما أكتظَ بهِ صدرَهُ ….في الحقيقة
ضجيجُ الحياة في وطنِهِ كان جنُوناً وخرقاً فاضحاً لحقوق الآخرين وعدم
أحترامَهم…..لكِنّهُ كأهل بلادهِ أحبّ هذا الجنون ….لقد أنتقلَ من الضجة
القاتلة الى الصمت القاتل ….يا لِمُفَارقات هذهِ الحياة….قبلَ أيام أتصلت
جارتَهُ بالشُرطة لأنّ صوت التلفاز علاَ لبعض الوقت …والرجُل الذي يسكُنُ
في الطابق الرابع دارَ معركةً ضدَ جارَهُ في الطابق الخامس لأنّهُ لم يمشْ
على رؤوس أصابعهِ تجنُباً للضجة بل مشى مُتباهياً بكفيّ قدميهِ كاملتين
مُنبَسطَتين على أرضية الشقة ……
كانت معارِكَهُ اللامُنتهية مع زوجتهُ
أحياناً تتحولُ الى سهرةٍ ليلية يُشارِكُ فيها الجيران المُتألمين
والشامتين معاً….بعضَهُم كان يرغَبُ حقاً في أصلاح الشأن بينَهُ وبين
زوجتهُ والآخرين كانوا قد ملّوا هذهِ الشجارات وأتهموهُ بأنعدام الشعور
وسوء الأحترام للجيران كما حقوقِهم ….لكنّ أحداً منهم لم يُفكِر قط
بأستدعاء الشُرطة…. بعضهُم لم يكُنْ يُزعِجهُم سلب راحتِهم بقدر ما كان
يُزعجهُم ويُؤلِمهم سوء التفاهُم بينَهُ وبين زوجتَهُ….و ما كانوا يألون
جُهداً لاصلاح الشأن ودون جدوى صدقاً أو تباهياً…..كانت معارك لا تنتهي
ما أنتصر فيها يوماً وما غلب….حتى حانت الساعة فكانت المعركة الأخيرة
والحاسمة ولم يربح فيها أحد…. بل خَسرَ الجميع حتى الذين لم تكُنْ لهم
علاقة بالوضع لا من قريب ولا من بعيد…يذكُرُ يومها أن الشجار شبّ بينهُ
وبين زوجتهُ ….وبالتأكيد كان السبب تافهاً أو معدوماً…. ويذكُرُ أيضاً
وجه طفله الفزِع مما يجري وتطورّ النزاع أكثر فأنهال ضرباً عليها وفي غمرة
إِنهِماكِه سمع صرخة طفله يُداخِلها صوت الكابح لمقود سيارة فقفزَ الى
الشارع كالمجنون وقد سبقَهُ الأخرون تتبَعَهُ زوجتَهُ كعجينة أنهكتها
اللكمات …. ورأى ماتمنّى طوال عمره أن لايراهُ….وكان كل شئ قد أنتهى في
لحظة والطفل الذي أفزعَهُ هجوم أبيهِ على أُمهِ ظاناً موتها وهبَهُ الموت
وجهاً فارقَهُ الفزع وجسداً هادئاً مُستسلماً للراحة الأبدية…..
لم
تغفر لهُ زوجتهُ أبداً موت وحيدها وهو السبب في نظرها ….كما لم يغفر
لزوجته موت ولَده وهي السبب فيما جرى فلو لم تجرّهُ لمعركة جديدة لما حدثَ
ما حدث….وبعد هذا الحادث المُفجِع لم تنفع ولا حتى المساعي الدولية في
أصلاح الشأن بينهُ وبينها فهجرتهُ الى غير رجعة وهجرها هارِباً الى هذهَ
البلاد….ما أحوجهُ الى وحيده….. ما أحوجَهُ الى اياً كان ممن تركهم
ورائهُ ليُبعِدَ عنهُ هذا الشعُور الكريه ـ الوحدة ـ ….أبداً لن تتمكنَ
صديقَتَهُ هذهِ من هدم ولو طابوقة واحدة في جِدارِ وحدتِهِ ….لن يُزيحَ
هذا الشعور عنهُ الا واحداً من اولئك البعيدين….ملأ كأساً أُخرى بالشراب
وأفرغها في جوفِهِ دُفعةً واحدة أتبعها بأُخرى وأُخرى وأرهف السمع لصوت
المُطرب علّهُ يطغي على الضوضاء التي تملأُ دواخِلَهُ وتكتُم صُراخ روحَهُ
المُعذبة ….
وجاء صوتُ المُطرب حزيناً مُلتاعاً يُنادي أهلهُ ويشرحُ
أحتياجَهُ لهُم ويُناشِدهُم أن يذكروهُ كما يذكرهم دائماً وهو الغريب
البعيد عن أرضهِ ووطنِهِ ….فناحَ مع المُطرب ضارباً بقبضتهِ الجريحة
المنضدة أمامَهُ ضربات مُتتالية مع كل كلمة صارِخاً :
* نعم…أُريدكُم اليوم ….هنا …هنا …معي أنا بحاجتكم…..
رديئكُم وطيبكُم ….أعدائي وأحبائي….أُريدكُم هذهِ اللحظة….
هنا الآن….أمامي….أُريدكُم…..
ووصلت الجلبة جارتهُ فصرخت من خلف بابهِ المُقفل:
أيُها الحقير ….هل جُنِنت أم ماذا….الا تخمدُ ناركَ يا لعين..
وما كان مِنهُ الا أن صرخَ أكثر علّ صوتَهُ يجتازُ كُل الحواجز
ويصِلُ الى حيثُ يتمنى….والى أن يصِل صوتَهُ هُناك ستكُونُ كل أوعية الطبخ مُمتلئة بالحُمص اللذيذ….وجاهزة للأكل….
وكل الأواني ستكونُ نظيفة………
حُزيران 2003