إطلالة على اللغة الفِنْلَنْدِيّة

بقلم البروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
الموضوع; إطلالة على اللغة الفِنْلَنْدِيّة

25 / 11 / 2022
http://nala4u.com

مقدّمة

يعود أصل الفنلنديّين، إلى شعوب كانت تقطن بين أنهار الڤولغا وأوكا وكاما، الواقعة اليوم في روسيا. جاء أوّل السكّان إلى فنلندا في الألف السابع ق.م.، وكانوا عبارة عن أقوام وقبائل متعدّدة، ومنها أسلاف الشعب السامي الحالي Sámi/Saami أو اللابيّون، Lapps/Laplanders. ربّما كان الأوائل صيّادين، دخلوا البلاد في الصيف أوّلًا، وبمرور الوقت وتدريجيًّا، بدؤوا بالمكوث فيها في فصل الشتاء أيضًا. ويظهر أنّ وفرة أصناف التوت في الغابات، كانت ركيزة قُوتهم. وهنالك مجموعة سكّانيّة أُخرى من جهة الجنوب الشرق، قدمت إلى فنلندا في الألف االرابع ق.م. ومن المحتمل أنّهم كانوا من الناطقين بلغة فِنّو-أوچريّة وقد يكونوا ذوي صلة بأسلاف فنلنديّي اليوم، إن لم يكونوا في الواقع المجموعة ذاتها. وبعد ذلك، حصلت هجرات من جهة الجنوب الغربي ومن أوروبا المركزيّة، وجرى ذلك في غضون الألف الأوّل ق.م. فنلندا كانت دائمًا بلدًا شماليًّا صغيرًا بين الشرق والغرب، ويمكن القول إنّ تاريخ هذا البلد عبارة عن قصّة الطرق التجاريّة، صدام الثقافات/الحضارات والعيش بجِوار جاريْن عظيمين. والإنسان سكن فنلندا منذ العصر الجليديّ، حوالي سنة 8800 ق.م.، وعليه سكن الأوائل بالقرب من الممرّات المائيّة. والجدير بالذكر أنّ أقدم مدينة فنلنديّة Turku الواقعة في غرب فنلندا، معناها ”مكان تجارة“.

بعض الكلمات الفنلنديّة المستخدمة حتّى اليوم، تعود إلى 4000 عام، ولا عِلم لنا بمكان وزمان اللغة المكتوبة، إلّا أنّ أقدم كتابة فنلنديّة، ربّما تعويذة، معروفة، يرجع تاريخُها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، والمكان نوفغورود في روسيا. اللغة الفنلنديّة تركيبيّة/إلصاقيّة (agglutinative) مثل اليابانيّة والتركيّة والسواحيليّة والكوريّة والأمازيغيّة، أي أنّ معظم الكلمات مكوّنة من مورفيمات، أي مقاطع صرفيّة، متتالية . في الأبجديّة الفنلنديّة تسعة وعشرون حرفًا، ستّة وعشرون حرفًا كما في الإنچليزيّة مثلًا، وتضاف إليها الحروف/الصوائت: å, ö, ä. وتمتاز الفنلنديّة بتناغم/اتّساق الحركات، بتعاقب/تدرّج الصوامت. يعدّ أليكسِس كيڤي (Aleksis Stenvall/Kivi, 1834-1872) أبو الأدب الفنلنديّ الحديث بروايته الشهيرة ”الأشقّاء السبعة“ 1870. يقدّر عدد الناطقين باللغة الفنلنديّة، وهي إحدى لغات الاتّحاد الأوروبيّ الرسميّة، الأربع والعشرين لغة، قليل نسبيًّا، حوالي الخمسة ملايين ونصف المليون. ويقال إنّ الفنلنديّة هي اللغة الرسميّة لفِرَق موسيقى المعادن الثقيلة (metalheads). من المعروف، أنّ اللغة الفنلنديّة لم ُتقرِض كلماتٍ كثيرة للغات أخرى، ولكن ثمّة كلمة فنلنديّة دخلت لغاتٍ كثيرةً جدّا في العالَم وهي sauna أي الحمّام الفنلندي. هنالك مفردات كثيرة، لا سيّما في العصر الحديث، تتّسم بالحرفيّة والمرح مثل: خِزانة الجليد، ماكنة المعرفة، ماكنة الطيران، عجلة الطريق أي: البرّاد/الثلّاجة، الحاسوب/الكومبيوتر، الطائرة، الدرّاجة الهوائيّة، وفي الفنلنديّة: jääkaappi, tietokone, lentokone, polkupörä. ويبدو أنّ أطول كلمة في العالم موجودة في اللغة الفنلنديّة وعدد حروفها واحد وستّون، وهي بالطبع، نادرة الاستخدام: ميكانيكي ضابط صفّ متدرّب في طائرة نفّاثة بمحرِّك توربيني فرعيّ.

lentokonesuihkuturbiinimoottoriapumekaanikkoaliupseerioppilas

الثقافة الفنلنديّة عمليّة ولا تُولي كبير اهتمام للمجاملات والرسميّات. يظهر أنّ الفنلنديّ هو الوحيد في العالم الذي يستطيع أن يحتفل مرّتين في السنة، في عيد ميلاده وفي يوم اسمه (من ناحية أُخرى يُذكر أن المولود في 29 شباط يحتفل بعيد ميلاده مرّة واحدة كل أربع سنوات). لكلّ اسم فنلندي وسويديّ يوم معيّن في التقويم، ويعود هذا التقليد إلى العصور الوسطى. تنقسم لهجات اللغة الفنلنديّة إلى سبع رئيسيّة، بين شرقيّة وغربيّة.

نظرة تاريخيّة

تنتمي اللغة الفِنْلَنْدِيّة إلى الفصيلة الفِنّو-أُوچْريّة (Finno-Ugrian) في العائلة الأوراليّة، كالإستونيّة، وهي قريبة منها وكالهنغاريّة وهي بعيدة جدّا عنها. ومن أخوات الفنلنديّة في المجموعة البلطيقيّة الفِنيّة هذه اللغات – الإستونيّة والكريليّة والڤِپْسيّة والإزْهوريّة والڤوتيّة. كانت الفنلنديّة واللغات التي انبثقت منها على صلة بلغات هندو-أوروبيّة مدّةَ أربعة آلاف سنة تقريبًا. لذلك، تُعتبر اللغة الفنلنديّة، من منظور معيّن، مُتحفًا لغويًّا للعديد من الكلمات الدخيلة منذ آلاف السنين. وهذه بعض الأمثلة على ذلك – sata (مائة) من لغة هنديّة-إيرانيّة قديمة؛ puuro, ohra, olut, hammas (سِنّ، جِعة، شَعير، عصيدة) من اللغة البلطيقيّة القديمة؛ leipä, juusto, ja, kuningas (خبز، جُبنة، وَ، مَلِك) من لغات جِرمانيّة قديمة؛ vapaa (حُرّ) من الروسيّة القديمة؛ laatikko, silli, salatti, manteli, rusina, kakku, torttu, sänky (صندوق أو علبة، نوع من السردين المالح، سرير، كعكة صغيرة مستديرة، كعكة، زبيب، لَوز، خسّ،) من السويديّة. يبدو أن

الفنلنديّة لغة محافظة، بمعنى أنّ الكلمات تتغيّر ببطء شديد جدّا. يعتقد العديد من اللغويّين بأن اللفظة kala (سَمكة) مثلا، هي نفسها التي كانت في اللغة الأوراليّة الأمّ منذ آلاف السنين، وكذلك kuningas (ملِكٌ)، التي تبدّلت في لغات أخرى نحو king بالإنجليزيّة و konung بالسويديّة و König بالألمانيّة وkonge بالدانمركيّة و وkoning بالهولنديّة إلخ.

يعود تاريخ المصادر المكتوبة الأولى، التي تذكر الاسم ”فنلندا“ إلى حوالي القرن العاشر. ويبدو أنّ القبائل المتحدّثة باللغات الفِنّو-أُوچريّة كانت، قد وصلت فنلندا، في العصر الحجريّ واعتاشت على الصيد، أسماك وطيور وحيوانات. وقد بدأت تلك القبائل في جنوبيّ البلاد، في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، بمزاولة الزراعة. في العام 1154 م. احتلّ ملك السويد، أريك التاسع، فنلندا، التي كان معظم سكّانها وثنيّين، وامتدّ الحكم السويديّ قُرابة سبعة قرون. وهكذا تغلغلت اللغة والثقافة السويديّة في البلاد، واندحرت اللغة الفنلنديّة، وكانت لغة الطبقات السفلى. وفي العام 1809 احتلّ القيصر الروسيّ، إلكسندر الأوّل، فنلندا من السويد وجعلها دوقيّة. وفي غضون هذا الاحتلال الروسيّ، حوالي قرن من الزمان، تحسّنت مكانة اللغة الفنلنديّة وفي العام 1892 أصبحت لغة رسميّة بجانب السويديّة. وفي السادس من كانون أوّل في العام 1917 نالت فنلندا استقلالها. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى مصطلح ”حرب اللغات الفنلنديّة“، والمقصود منه، النضال الشعبيّ بصدد مكانة اللغة الفنلنديّة، إزاء اللغة السويديّة في الفترة الزمنيّة الواقعة بين أواخر القرن التاسع عشر، وحتّى ثلاثينيّات القرن العشرين. وتمخّض عن ذلك ارتقاء اللغة الفنلنديّة إلى منزلة اللغة الأساسيّة في فنلندا.

يُعْتبر المطران ميخائيل أچْريكولا (Mikael Agricola 1510-1557) مؤسِّس اللغة الفنلنديّة المكتوبة، إذ أنّه قام بترجمة العهد الجديد إلى الفنلنديّة عام 1548، مستخدمًا اللهجة التي كانت سائدة في منطقة توركو الواقعة في غرب فنلندا. كما يعتبر كتابُه حول الألف باء الصادر عام 1538، أوّل كتاب وصل إلينا بالفنلنديّة. أما كتاب القواعد الأوّل فقد ألّفه إسْكِل پِتْريوس ( 1657-1593 ,Eskil Petraeus) باللاتينيّة عام 1649، والقاموس الأوّل صدر عام 1745. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ الترجمة الفلنلنديّة الأولى لكافّة الكتاب المقدّس بعهديه، القديم والحديث (OT & NT)، قد تمّت عام 1642.

وفي غُضون القرن التاسع عشر، كان هناك ميل شديد لاستخدام الاشتقاق وفَنْلَدة الألفاظ الأجنبيّة، أكثر من اقتراضها كما هي في لغة الأصل. في تلك الفترة، طُوّرت اللغة الفنلنديّة من لغة محكيّة إلى لغة رسميّة وثقافيّة مكتوبة منذ العام 1863. مثال واضح على ذلك kirja (كِتاب) ومشتقّاته kirjoitta (يكتبُ)، kirje (رِسالة، مكتوب)، kirjain (حرْف هجائيّ)، kirjasto (مكتبة)، kirjallinen (كتابيّ، تحريري)، kirjailija (مؤلِّف)، kirjoittaja (كاتِبٌ، أديب). ومن ناحية أخرى نرى puhelin (هاتف) و yliopisto (جامعة) و tietokone (حاسوب، حرفيًّا: ماكنة معرفة، كما ورد أعلاه) و matkapuhelin (خلوي، الهاتف المحمول الخ. وحرفيا: حاكي/هاتف الرحلة، يُذكر أنّ هناك كلمة بالعامّيّة الفنلنديّة للمحمول وهي مشتقّة من اليد، kännykkä وقارن ذلك بلفظة handy الدخيلة في الألمانيّة) كما هو الحال في العربيّة، بدلًا من الكلمات المستعملة في العديد من اللغات الاوروبيّة، التلفون واليونيڤرسيتا والكومبيوتر والموبايل.

يُشار إلى أنّ الشعب الفنلنديّ، شعب قارىء، ولا يعرف الأميّة، والمكتبات العامّة المجّانيّة متوفّرة في كلّ التجمّعات السكّانيّة، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن شرق البلاد إلى غربها. أضِف إلى ذلك أنّ هناك ما يمكن أن نسمّيه المكتبات الجوّالة في سيّارات الحافلات. أولى النشرات الفنلنديّة طبعت في القرن السادس عشر، وبالرغم من هذا، فاللغة الفنلنديّة بقيت اللغة المحكيّة لدى غير المتعلّمين لثلاثة قرون أخرى، إلى أن غدت لغة رسميّة في أواخر القرن التاسع عشر إذ أنّ فنلندا كانت تحت الحكم السويديّ.

في فنلندا لغتان رسميّتان، الفنلنديّة وتبلغ نسبة الناطقين بها إلى 92,4٪ واللغة الرسميّة الثانية هي السويديّة المحكيّة في المناظق الساحليّة ويشكّل ناطقوها 5,6٪ من مجموع السكّان، وما تبقّى من السكّان أي 2٪ يتكلّمون خمسمائة لغة، وتأتي العربيّة في المرتبة الخامسة، بعد الفنلنديّة، السويديّة، الروسيّة والإستونيّة، من حيث عددُ الناطقين بها، حيث يصل إلى أكثرَ من خمسين ألفًا منذ العام 2017، ويصل عدد المسلمين في فنلندا إلى سبعين ألفًا. وينبغى التنويه بأنّ معظم الخمسمائة لغة المذكورة لا يتحدّث بها سوى عدد ضئيل جدّا من الناس (اُنظر كتاب لغات فنلندا لاحقًا). لا بدّ من التذكير، بأنّ فنلندا كانت جزءً من مملكة السويد، منذ القرن الثالث عشر وحتى عام 1809، حين أصبحت دوقيّة كبيرة تحت الحكم الروسيّ. حصلت فنلندا على استقلالها في السادس من كانون الأول عام 1917. ويشار إلى أن اللغة السويديّة، كانت اللغة الرسميّة في فنلندا، مدّةَ ثلاثة قرون من بعد أچريكولا، وقد تركت بصماتِها في الفنلنديّة لا سيّما على مستوى الاقتراض المعجميّ، أمّا عامّة الشعب والكنيسة فكانت لغتهما الفنلنديّة. ما زالت السويدىة اللغة الرسميّة الثانية في فنلندا.

يقسِّم اللغويّون الفنلنديّون اللغة الفنلنديّة إلى أربعة مستويات وهي: اللغة الأدبيّة (kirjakieli)، لغة الأدب الفنلنديّ عامّة ولغة وسائل الاتّصال، واللغة العامّة (yleiskieli)، وهي الشكل المحكيّ للغة الأدبيّة، ثمّ اللغة المحكيّة فاللهجة. تُدرّس اللغة الفنلنديّة في حوالي 90 جامعة منتشرة في 30 دولة في أوروبا وأمريكا الشماليّة وآسيا، ويبلغ عدد المدرّسين حوالي المائتين، والطلّاب حوالي الألفين وَفق إحصائيّات العام 2000. ومما يجدر ذكره أنّ تدريس الفنلنديّة خارج فنلندا، قد بدأ في جامعة تَرْتو في إستونيا عام 1803. لا علم لي بأيّة جامعة عربيّة تدرّس اللغة الفنلنديّة.

يقال إنّ حالة “الجزء من” (partitive)، تأتي في المرتبة الثانية بعد حالة الرفع من حيث الأهميّة. بدأت جامعة هلسنكي في تدريس الفنلنديّة للأجانب منذ العام الدراسيّ 1952-1953، وكان عدد الدارسين أربعًا وعشرين طالبًا من اثنتي عشرة دولة، أما اليوم في بداية القرن الحادي والعشرين فيبلغ عدد الطلبة حوالي الألف. وكانت إلْسا ڤوورنن (Elsa Vuorinen) الإنجليزيّة الأصل، أوّلَ مُدرّسة في هذا المجال مستعملة لغة أمّها في التدريس. وفي العام 1976 افتتح ما يسمّى بـ “اللغة والثقافة الفنلنديّة” (Finnish Language and Culture, FLC) كموضوع ثانويّ للأجانب. عُيّن المحاضر الأوّل للغة الفنلنديّة في جامعة هلسنكي عام 1829 وكانت مهمّته تدريس هذه اللغة للطلاب الناطقين بالسويديّة وفي العام 1851 أُسّست أستاذيّة اللغة الفنلنديّة وآدابها في الجامعة (Matias Aleksanteri Castrén).

من سِماتها

هناك مَنْ يدّعي أنّ اللغة الفنلنديّة من أصعب خمس لغات في العالم وهي الآيسلنديّة والماندرين/الصينيّة الشماليّة، المجريّة والبولنديّة، ويعتقد آخرون أنّها منطقيّة وليست بأصعبَ من غيرها من اللغات، بل إنّها في بعض النواحي أسهلُ من غيرها، إذ لا تعريفَ فيها ولا جنسَ لغويّا، وهي فونيطيقيّة أي تُكب كما تُسمع. من الواضح أن لكلّ لغة حيّة سماتها ومنطقها الداخليّ، وموضوع الصعوبة والسهولة ذاتيّ وانطباعيّ في معظمه، فلكلّ لغة نظامها وطريقتها في التعبير عن كلّ شيء أو خلق الواقع.

ففي الفنلندية يقال مثلًا عن أمر غير مفهوم بالمرّة Se on täyttä hepreaa أي أن ذلك عبريّة خالصة. ولدى الشعوب في هذه الجزئيّة أقوال مختلفة، ففي العربيّة يُقال: هذا سنسكريتي بالنسبة لي، ناطق الإنجليزيّة يقول: هذه يونانيّة بالنسبة لي، الإيطالي: هو يتكلّم العربيّة، اليهوديّ الإسرائيلي: هذه صينيّة لي والصينيّ يقول: هذه لغة العصافير وهلمجرّا.

تمتاز اللغة الفنلنديّة بوفرة الحركات إذا ما قورنت بالحروف الصامتة، وهناك ما يمكن تسميتُه بالتناسق في الحركات وعددها ثمان وهناك 17 حركة مركّبة (diphtong)، أو التوافق الحركيّ (vowel harmony)، بمعنى أن الحركات الخلفيّة a, o, u لا ترد في كلمة ذات حركات أماميّة ä, ö. y، أمّا الحركتان e, i فحياديّتان وتردان في جميع الحالات. في الأسماء، تنقلب الحركة i إلى e واللاحقة nen- إلى -sen. لا وجود للباء والفاء والشين والجيم (المعطشة والمصريّة) والدال وكذلك الحرفين c ،w . ويذكر أنّ الشين في الأرومة البلطيقيّة قبل آلاف السنين قد تحوّلت إلى الهاء في الفنلنديّة، وفي فترة زمنيّة متأخّرة، تحوّل نفس الصوت الموجود في السويديّة مثل ¡akki إلى الصوت سين. هناك تعاقب في الصوامت، فكّ الإدغام قبل المقاطع المغلقة مثل: kk, pp, tt. تقع النبرة الأساسيّة على المقطع الأوّل في الكلمة. يقال عادةً إن نظام الجملة في الفنلنديّة “حرّ” بسبب وجود الحالات الإعرابيّة الكثيرة.

إنّ طبيعة صعوبة الفنلنديّة وحدّتَها، تتوقّفان على مدى أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين لغة أمّ الدارس. فهي قد تكون صعبةً، من حيث القدرةُ على التمييز بين حركة قصيرة وأخرى طويلة، وبين صامت مشدّد وآخر غير مشدّد للناطقين بلغات لا تعرف هذه الظاهرة. أمّا بالنسبة للناطقين بالضاد، فلا توجد أيّة صعوبة في هذا الصدد. الفرق بين “كَتَبَ” و”كاتبَ” و”عَلَم” و”عَلّم” بديهيّ بالنسبة للعربيّ، كما أنّ الفرق بين kylä (قرية) و kyllä (نَعَم) من جهة و kun (عندما، حين) و kuun (قمر في حالة الإضافة) بيّن وطبيعيّ بالنسبة للعربيّ أو لمن يجيد العربيّة. كما أنّ من جوانب السهولة في الفنلنديّة، وضوح الصلة بين اللاحقة والمعنى. أضف إلى ذلك، أن لا أداة للتعريف ولا تذكير أو تأنيث، ولا مثنّى في اللغة الفنلنديّة. كلمة hän، على سبيل المثال، تدلّ على ضمير الغائب والغائبة أي “هو وهي”. في الفنلنديّة ستّة ضمائرَ، أي نصف ما في العربيّة الفصحى من ضمائر، وينسحب نفس الأمر بالنسبة إلى عدد صيغ المضارع المرفوع، ففي الفنلنديّة ستّ صيغ كاللاتينيّة وفي الإنجليزيّة صيغتان فقط. تبدو الأصوات في الفنلنديّة روتينيّة إلا أنّها ذات نغمة وتصلُح جيّدا للشعر الغنائي. يخيّل للمستمع أن لا فرقَ بين جملة إنشائيّة وأخرى استفهاميّة إذ لا فارقَ واضحًا في النبرة، كما هي الحال مثلا في اللغة العربيّة. ويشار إلى أنّ لاحقة الاستفهام وهي -ko-/-kö مستعملة في اللهجات أيضا. قد يكون لكون الفنلنديّة مختلفةً عن اللغات المعروفة والمنتشرة كالإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة والإسبانيّة تأثير إيجابيّ على عمليّة تدريسها للأجانب، إذ لا مجال للبلبلة في معرفة المشترك والمختلِف بينها.

ومن ميزات هذه اللغة، التي يتكلّمها حوالي ستة ملايين من الفنلنديّين في العالم، وفرة الحالات الإعرابيّة التي يصل عددها في الأسماء والصفات إلى أكثرَ من خمسَ عشرةَ حالةً، في حين أن في العربيّة الفصيحة، على سبيل المثال، ثلاث حالات في الاسم، الرفع والنصب والجرّ وفي الفعل الرفع والنصب والجزم. وممّا يشار إليه أنّ للفعل وفق ما جاء في معجم الفنلنديّة الحديثة أنماطًا تصريفيّة كثيرة جدًّا يصل عددها إلى أربعة وأربعين، إلا أنّ بعض الباحثين يختصر ذلك إلى خمسة أوزان رئيسيّة، وآخرون إلى وزن واحد لا غير. عدد صيغ اسم الموصول ”الذي“ وأخواته في العربيّة هو ثماني صيغ ظاهريًا وثماني عشرة صيغةً إعرابيّة مقدّرة، في حين أنّه في الفنلنديّة يبلغ عدد joka وأخواته إلى 28 صيغة وهلم جرّا كثير مثل اسماء الاستفهام “مَنْ، أيّ، أم” ويقابلها في الفنلنديّة 24 صيغة، 25 صيغة و29 صيغة على التوالي. تُعتبر اللغة الفنلنديّة المكتوبة لغةً تركيبيّة كالعربيّة الفصحى، في حين أن هنالك ميلاً للنظام التحليليّ في اللغة المحكيّة. يقال في اللغة

الرسميّة مثلا talossani أي “في بيتي” (حرفياً: بيت+في + ي) وفي الكلام المحكي mun talossa أي “في البيت انتاعي” في اللهجة الفلسطينيّة مثلاً. تَستعمل اللغة الفنلنديّة اللواحق كثيرًا وهكذا تتكوّن كلمات طويلة وطويلة جدّاً مثل kahdeskymmenesensimmäinen ذات الخمسة والعشرين حرفا وتعني “الواحد والعشرين” أما كتابة العام 1978 مثلاً فتتطلّب أربعاً وأربعين حرفا (tuhatyhdeksänsataaseitsemänkymmentäkahdeksan). يمكن القول بأنّ ساكنيْن لا يجتمعان في بداية الكلمة ولا في نهايتها أبدا إذ لا حالة وقف فيها. لذلك تحولّت اللفظة السويديّة strand إلى ranta أي “شاطىء” و kurs إلى kurssi أي “دورة”. إلا أن الساكنين يجتمعان في الفنلنديّة المحكيّة مثل kaks أي “اثنان”. وفي اللغة الفنلنديّة نظام مختلف وغنيّ بصيغ المصدر الفعليّة وأسماء الفاعل والمفعول، وقد طرأ على ذلك العديد من التغييرات منذ القرن السادس عشر.

من الصعوبات التي يواجهها العربيّ في دراسته اللغة الفنلنديّة، يمكن التنويه بالقضايا الرئيسيّة التالية: بعض الأصوات مثل التفريق بين y و ö و i و e والحركة المركّبة oi/öi كما في اللفظتين koi/yöi (امتحان، ليلة)؛ في عدم وجود أحرف الجرّ والنصب الخ؛ كثرة الحالات الإعرابيّة التي للكثير منها لا مقابل واضحًا له في العربيّة ولا سيّما ما يدعى بـ partitiivi؛ وفرة صيغ تصريف الصفة وأفعل التفضيل حوالي 90 صيغةً؛ تركيب الجمل أي النحو عامّة يختلف جذريًّا عن الوضع في العربيّة، الصَّرف أيضا بحاجة إلى دراسة متأنّية لا سيّما لما يطرأ من الإبدال. بعض الأمثلة على ذلك: Luin kirjaa معناها “كنت أقرأ في كتاب/الكتاب “أما Luin kirjan فمعناها “قرأت كتابا/الكتاب”. في تصريف الكلمة نجد أن جمع varvas (إصبع القدم) هو varpaat وجمع joki (نَهْرٌ) هو joet ومن الفعل aiko (ينوي) يُشتقّ aion (أنا أنوي)، الصامت k “مشكلجي” في معظم الحالات فمن الصعب المعرفة متى يبقى على حاله نحو lahko (طائفة) وفي حالة الإضافة lahkon ومتى يختفي نحو nahka (جِلْد) وفي حالة الإضافة nahan وينقلب الكاف إلى ڤ في مثل suku (عائلة، سَلف) التي تصبح suvun في حالة الإضافة. كما أنّ حرف الكاف في الكلمات المنتهية بالأحرف rki أو lki يُقلب ياء في الإضافة مثل kurki, jälki (غرنوق، اسم عصفور؛ أثَر) فتصبحان kurjen, jäljen.

قد يلاحِظ دارسو اللغة الفنلنديّة، أنّ من الصعوبات التي تعترضهم، هي طريقة التفكير لدى الشعب الفنلنديّ الذي يضع إحساساتِه في الفريزر، على الأقلّ ظاهريًّا، وكيف يعبّر عن الأشياء. عبارات الأدب والمجاملة مثل “سيّد، سيّدة، آنسة” (herra, rouva, neiti) المألوفة في العديد من اللغات كالعربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، تعتبر نادرة الاستعمال في الفنلنديّة، اللهمّ إلا في الرسميّات. كما أنّ استخدام الاسم الشخصيّ في الحديث المألوف، لدى العديد من الشعوب، أمر غير مرغوب فيه في المجتمع الفنلنديّ. عادة يقول الفنلندي ما يريد مباشرة بدون مقدّمات أو لفّ ودوران، إلا أنّه متحفّظ نسبيًّا ويخلُد إلى الصمت عند التعبير عن رأيه، أو وجهة نظر مخالفة، وذلك تفاديًا للمواجهة، إذ أنّ ثقافة الجدل والتحاور غير مترسّخة بعد. وللبعد الجغرافيّ أهميّة واضحة في اللغة الفلنلديّة لطبيعة البلاد فهناك، على سبيل المثال، كلمات خاصة للدلالة على الجهات الفرعيّة الأربع – الشمالي الشرقي، الشمالي الغربي، الجنوبي الشرقي، الجنوبي الغربي (koillinen, lounas, kaakko, luode).

لا علمَ لي بوجود أيّ كتاب قواعد للغة الفنلنديّة باللغة العربيّة، في حين توفّر عدد من المعاجم الثنائية فنلندي-عربي صدرت تباعًا في العقد الأوّل من القرن الحالي. وقد أعدّ تلك المعاجم السادة تيسير سليم خليل، لقمان عبّاس، مارية الهلالي رمحمود مهدي عبد الله. كان كاتب هذه السطور قد تطرّق لهذه المعاجم بالعرض والمراجعة في منابر إلكترونيّة مختلفة يمكن الوصل إليها بمحرّكات البحث وباستخداك كلمات مفتاحية مثل: قاموس فنلندي-عربي + حسيب شحادة؛ حلقة في الإعداد المعجميّ الثنائيّ، الفنلندي-العربي. زبدة تلك المراجعات: العمل المعجميّ الفنلنديّ العربي ما زال في خطواته الأولى وما نُشر يفتقر للأصول العلميّة المرعيّة في هذا المجال.

على كل حال، يبدو لي أنّ العقبة الكأداء في تعلّم العربيّ للفنلنديّة، هي محاولة تعلّم طريقة التفكير الفنلنديّة، وصعوبة الانخراط في المجتمع الفنلنديّ، إذ لا تمكّن في أيّة لغة بدون الممارسة والقراءة المستمرّة.

Fred Karlsson, The Languages of Finland 1917-2017. Lingsoft Language Library, 2017.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, ثقافة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.