تعقيب على كتاب:اقليات شمال العراق بين القانون والسياسة

بقلم الدكتور محمد البندر
تعقيب على كتاب: ” اقليات شمال العراق بين القانون والسياسة ” بقلم المحامي د. جميل ميخا شعيوكا …

ملاحظات وآراء …

عن دار صحارى للصحافة والنشر في بودابست صدر للباحث العراقي د.جميل ميخا شعيوكا كتاب حمل عنواناً هو ” اقليات شمال العراق بين القانون والسياسة ” ، تناول فيه الكاتب موضوع الاقليات في شمال العراق ، من وجهة نظر القانون الدولي. والمؤلف اكاديمي عراقي يقيم في المهجر، وهو من قضاء القوش في محافظة نينوى. اكمل الباحث دراسة الماجستير والدكتوراه في القانون الدولي والعلاقات الدولية من جامعة تشارلز في تشيكوسلوفاكيا سابقاً، وعمل استاذاً محاضراً في جامعة الجزائر.

الدراسة …

شملت الدراسة اربعة فصول شمل الاول منها البنية الديموغرافية للاقليات من حيث العدد السكاني وموقف القانون الدولي من عدد السكان، وفصل يتعلق بالتشكل التاريخي للاقليات في شمال العراق، وخصص الكاتب فصلاً عن علاقة الاقليات بالسلطة السياسية في العراق المعاصر. والفصل الرابع والاخير خُصص لشرح موقف القانون الدولي من مبدأ التدخل الانساني في العراق.

الديموغرافيا والسياسة …

وبالنسبة لمبادئ البنية الديموغرافية السكانية فقد حددها المؤلف بثلاثة محاور :

العدد السكاني لكل اقلية و التوزيع الجغرافي لها والجذور التاريخية. ولامناص لاي بحث علمي من الاستعانة بالاحصائيات المتوفرة الرسمية منها وغير الرسمية شريطة ان تكون حيادية وموضوعية، ومهما كانت درجة الدقة والموضوعية في هذه المعلومات الا انها لاتقبل على عناتها، وانها بحاجة الى غربلة ودراسة وتمحيص من قبل الباحث ونظرته النقدية الفاحصة. وكانت السيولة المعلوماتية الاحصائية للسكان بشكلها الموضوعي والحيادي متوفرة في العراق حتى منتصف السبعينات توقفت بعدها لاعتبارات سياسية ترتبط بالتعريب والصهر القومي لبقية الاقليات غير العربية، وخصوصاً في مناطق التعدد القومي والثقافي. حيث انتبهت الدولة العراقية الى خطورة المعلومات الاحصائية ودورها في تزوير الوضع الديموغرافي السائد واستخدامها كسلاح ذو حدين في الخطط السياسية الهادفة الى تغير الواقع الديموغرافي لصالح فئة محددة ضد فئة او فئات اخرى. وفي هذه الحالة لايمكن الركون بقدر معقول من الثقة الى احصائيات لمؤسسات تحتكرها الدولة العراقية المنهمكة في تنفيذ مشاريع “تنظيف” عرقية نشطة. وقد برز ذلك جلياً اثناء التعداد السكاني لعام 1977 حيث أُزيل حقل الانتماء القومي الذي كان موجوداً في الاحصاءات السكانية السابقة، وأُبقي على الانتماء الديني فقط. وبموجب تعليمات خاصة قام موظفوا الاحصاء بأجبار المواطنين غير العرب على حجب انتماءآتهم القومية، واعلان انفسهم عرباً من خلال الاسماء، وطال ذلك الكلدوآشوريين بكافة طوائفهم. وحتى العرب لم ينجوا من التغيير التعسفي للاسماء الشخصية، فسكان الجنوب العراقي في القرى والارياف دأبوا على اتخاذ اسماء محلية قد لاتروق لموظف الاحصاء البعثي، الذي كان يفرض عليهم اسماءً ممجوجة دخيلة تعكس الثقافة الحزبية البعثية، التي يتقنها اكثر من ثقافة الاسماء في بلده ومعانيها.

ولذلك فمن المهم ادراك خطورة الجانب السياسي للمسألة الديموغرافية في البنية السكانية، ووضع ضوابط تاريخية لها، ولا ادري ان كان مبدأ الجذور التاريخية الذي اشار اليه الكاتب يدخل ضمن هذه الضوابط ام لا. ان ابداء الحيطة والحذر ازاء الديموغرافيا، وعدم استخدام العامل الديموغرافي على الارض لاغراض سياسية يتطلب زج عامل التاريخ الذي يمكن له ان يبت في شرعية الديموغرافيا او بطلانها، و بمعنى واضح ان الديموغرافيا الحالية اذا لم تكن تستند الى اساس تاريخي موثق فانها غير شرعية وباطلة. وراينا مثلاً واضحاً عن الكيفية التي صب المشروع القومي البعثي الماء في طواحين التغليب الديموغرافي في منطقة الجزيرة السورية لصالح الاكراد كما ذهب اليه الكاتب شمعون دنحو، مما يدعونا الى الانتباه للخطر الداهم الذي يشكله العامل الديموغرافي الضاغط على الوجود التاريخي للاشوريين في العراق وسوريا اذا توفرت له الامكانيات السياسية للتنفيذ.

تدويل القضية العراقية ….

ومن البديهي ان يتسائل المرء من خلال مطالعته للكتاب وأفكاره الرئيسية عن ماهية الرابطة التي اوجدها الكاتب بين وضع اقليات شمال العراق كقضية داخلية تخص العراق والعراقيين وبين القانون الدولي، وهل يحق للقانون الدولي ان يتدخل في حل قانوني لمسألة داخلية كالمسألة القومية لاحد البلدان ؟

للاجابة على هذا السؤال ينبغي علينا اولاً استيعاب القانون الدولي باعتباره مرجعية فقهية دولية من خلال ممارسته العملية خلال العقود الماضية. فالقانون الدولي، متمثلاً في محكمة العدل الدولية في لاهاي – كما بينت التجربة – يمكن ان يتدخل في حل مشاكل حدودية مستعصية بين بلدين كما حدث في العديد من الحالات، كقضية جزر حوار المتنازع عليها بين البحرين وقطر، كما يمكن له ان يبت في جرائم الحرب، وقد جرى فعلاً تشكيل محكمة لمقضاة مجرمي الحرب في يوغسلافيا. غير ان القانون الدولي لم يتدخل في نفس الوقت من اجل ايجاد حلول لمشاكل يوغسلافيا السياسية الداخلية، بل ان اتفاق دايتون للسلام في البلقان الذي جرى تحت ارادة وضغط حلف الناتو والولايات المتحدة الامريكية هو الذي وضع الاساس للازمة السياسية في البلقان. ونفس المبدأ ينطبق على العراق بعد حرب الخليج فقد تم تدويل القضية العراقية برمتها تحت ضغط الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها من خلال الشرعية الدولية المتمثل في منظمة الامم المتحدة.

وعليه فان قدرة تدخل القانون الدولي على ايجاد حلول للمشاكل السياسية المستعصية اقليمياً ومحلياً محدودة في الوقت الراهن، إذ تخضع لقواعد اللعبة السياسية والمصالح الاستراتيجية العالمية. اضافة الى ذلك فقد يحتاج القانون الدولي لوقت طويل لان يحظى بالقبول وخصوصاً من قبل الانظمة الدكتاتورية التي تتحجج بالسيادة الوطنية لتبرير بقاءها بعيداً عن المحاسبة الدولية، رغم ان الكثير من الشعوب الرازحة تحت الحكم الدكتاتوري تحدوها رغبة عارمة في ان ترى القانون الدولي يتدخل لحماية حقوق الانسان في دولها، وايقاف النغمة التي يرددها الحكام الطغاة عن السيادة الوطنية، وجرهم الى المحاكم الدولية ان اقتضى الامر ذلك. غير ان ذلك لم يحدث لحد الآن للاسف الشديد نظراً لتشابك المصالح السياسية للدول الاقليمية والعالمية المشغولة اكثر بتدويل القضية العراقية.

والتدويل يعنى في الواقع اضعاف سلطة صدام حسين من خلال تجريد الدولة العراقية من العديد من مرتكزات السيادة الوطنية، من قبيل اقامة منطقة الملاذ الآمن في شمال العراق، وفرض مناطق حظر الطيران في الجنوب والوسط، وحظر التجارة والاستيراد وبيع المنتجات النفطية وغيرها مما هو معروف، وتحديد شكل النظام السياسي القادم الذي يخطط له لان يقام على انقاض النظام الحالي في حالة سقوطه. ومن مظاهر دولنة العراق نقل تركيا لحدود امنها الوطني ليشمل شمال العراق كله، ودعم ايران غير المستتر لبعض الاحزاب الكردية، ولاحزاب الشيعة في جنوب العراق، و تقوم من حين لآخر بمهاجمة قواعد المعارضة الايرانية في العراق بصواريخ سكود غير عابئة بالحكومة العراقية. امتد التدويل ايضاً الى الامور الداخلية كدعم المعارضة السياسية للنظام في العراق بشكل مكشوف ودعوة هذه المعارضة في الفترة الاخيرة الى انشاء منطقة ملاذ آمنة اخرى في الجنوب.

الدولنة، والاتجاه التفتيتي للكيانات السياسية المعاصرة ..

ليس من قبيل الصدف ان تترابط دولنة القضية العراقية من الناحية الزمنية بظهور النظام العالمي الجديد او العولمة التي تهدف للوصول الى اهداف عديدة منها دعوتها الى انقلاب جذري في العلاقات السياسية والثقافية السائدة ، واعادة النظر في تركيبة الكيانات السياسية بما يتناسب وفسح الطريق امام العولمة لاكتساح الحدود القائمة، وازالة العوائق الثقافية والاجتماعية من امامها. واذا عدنا لمضمون الكاتب وهدفه النهائي نجد ان أختيار الكاتب لاشكالية العلاقة بين تدويل منطقة شمال العراق ووضع القوميات على اساس وصاية القانون الدولي بالدرجة الاولى يأتي في سياق هذا الوضع الجديد، ويتناسب مع سيل الدراسات الاكاديمية التي اهتمت بمستقبل العراق بعد مرحلة التدويل .

إن كان السياسيون من اكثر المتحمسين للعولمة سعياً وراء الرزق ! فان الباحثين الاكاديميين مدعوين لعدم الجريان واللهاث وراء صرعات العولمة في مجال البحث العلمي، من اجل الوقوع في منزلقات نظرية خطيرة تساعد على انتشار النزعة الانتقائية في تفكيك بعض الظواهر والاشكاليات المعقدة ومعالجتها من وجهة نظر منفردة، وخلط الاسس والمبادئ المتعلقة بنشوء واعادة تركيبة الهوية في مجالات السياسة والاقتصاد والفكر القومي. فمبادئ عصر العولمة التي تركز على عنصر الاقتصاد لاتعطي عنصري الثقافة او اللغة مثلاً دوراً مهماً في بناء الشخصية القومية او الوطنية لشعب او قومية او اقلية ضمن اطاره التاريخي والجغرافي والثقافي المحدد، بل تنظر لهويته الجديدة من خلال اعادة بناء منظومته الاقتصادية طبقاً للدور المحدد له ضمن نمط اقتصادي وثقافي عالمي اكبر. بعبارة اكثر وضوحاً فان نظام العولمة يسعى الى تهديم الاسس المحلية التقليدية للهوية الخاصة وتذويبها لصالح هوية عالمية اكبر. وهذا يحمل نتائج كارثية وخصوصاً بالنسبة للاقليات التي عانت من الغاء شخصيتها وتذويبها من قبل اعدائها المحليين. وعندما تلغي العولمة هذه الخصائص المحلية للشعوب الكبيرة والصغيرة على حد سواء فانها تطلق العنان للصراعات القومية والعرقية ونزعات الانفصال من عقالها ،وتدمرالكيانات ذات التركيبة المتعددة، وتفتيتها الى كيانات مصغرة لاتملك القدرة على البقاء من دون دعم خارجي. لقد قادت العولمة عالم الضعفاء الى كوارث، حيث تحولت دول وشعوب باكملها الى معسكرات لجوء، او دول لاجئة تتلقى المعونات والاحسان من الامم المتحدة وغيرها، وحتى لانذهب بعيداً نشير الى العراق فقط بجميع اقاليمه، وبعض بلدان شبه جزيرة البلقان، كمثال حي على ذلك.

ومن النتائج السلبية لتأثير العولمة على الفكر الاكاديمي هي محاولة الكاتب الحثيثة للتشكيك بالاسس التاريخية التي استند اليها العراق في تكوينه كدوله متعددة الثقافات والقوميات، وارجاع هذا التكوين الى قرار بريطاني.

فالكيانات ذات التعددية التي تستهدفها العولمة بالدرجة الاساسية كالعراق تستجلب غضب الكاتب، ومنذ الفصل الاول وهو يلقي اللوم عليها، ويبرر حق القانون الدولي في التدخل فيها بقوله ” ..ان رسم الحدود افتقر الى الموضوعية، وقام على اساس رعاية الدول المتنفذة على حساب الشعوب التي ورثت الخطل الكبير .. وماعبثت به اياديها في تشرذم العديد من الشعوب .. و ترسيم الحدود بعد الحرب العالمية الاولى بصرف النظر عن التركيبة الاجتماعية والروابط التاريخية، واهمية الكثافة السكانية.. ( ص11) . وقد بذل الكاتب جهداً مضنياً عبر فصول الكتاب لمعالجة “هذا الخلل” عن طريق تجريب بدائل لتكوين الكيان السياسي الخاص بها عن طريق الانفصال. ويشير الى شمال العراق تحديداً حيث يرى ان امكانية تحقيق هذا البديل ممكنة من الناحية النظرية على الاقل (125) من حيث قيام ثلاث دول: كردية، وتركمانية وآشورية. غير ان هذه البدائل تصطدم بعوائق منهجية وسياسية في آن واحد. ولو بدأنا بالمنهجية لوجدنا في الفصل الاول من الكتاب نوع من اللبس فيما يتعلق بالحدود الجغرافية لمنطقة شمال العراق، فقد حاول المؤلف ان يجعل الجغرافيا متجانسة مع نهج الكتاب وليس العكس، حيث انتقى المناطق الكردية فقط مضافاً اليها منطقة كركوك، و استبعد منطقة الموصل من هذا الاقليم ليبقى هذا الاقليم كردياً. وينتقل هذا اللبس الى التحديد الاثنوغرافي لاجناس منطقة شمال العراق حيث اقتصرت هذه التركيبة على ثلاثة مجموعات فقط وهي المجموعة الكردية والآشورية والتركمانية فقط، ولم يشر الى مجموعات اخرى اقل عدداً كالطائفة اليزيدية التي تسكن منطقة سنجار في الموصل، ربما لانه أدخلها ضمن عداد الاكراد، والاكثر غرابة في هذا التحديد عدم شمول هذه التركيبة على العرب كأقلية في شمال العراق (ص12)، وهم متواجدون بنسبة معتبرة في ضواحي كركوك، وفي مركز مدينة الموصل بنسبة متغلبة. وفي كركوك فيعود تواجدهم فيها الى فترة زمنية اقدم بكثير من حكم البعث الذي جاء الى الحكم عام 1968. وهناك بالطبع قسم من العرب كافراد او مجموعات تم اسكناهم في كركوك بعد اجلاء الاكراد، وقسم من التركمان كجزء من سياسة التعريب للدولة العراقية، وهذا بيّن ولاجدال فيه. ومن العوائق السياسية أشار الكاتب الى عدم نضوج فكرة قبول الاكراد بقيام مثل هذه الدويلات ضمن اطار الاقليم، ومعارضة او تدخل القوى الاقليمية في مشاريع تأسيس هذه الدويلات، وكذلك معارضة النظام العراقي ص126 . واضيف من جانبي بان تحقيق فكرة الكيانات المستقلة تتطلب قدراً من الديمقراطية والحرية السياسية، والاعتماد على لغة الحوار واحترام رغبات الشعب المحدد، الامر الذي لايتوفر في الوقت الحاضر، بمعنى آخر ان ولادة هذه الكيانات يجب الا تتم بعملية قيصرية، وبدلاً من ذلك يرى الكاتب ” … ان الحل الامثل الذي يستجيب للحقوق الانسانية بقدر معقول هو الحكم الذاتي” (ص126) ، وتطبيق هذا النوع من الادارة يستدعي برأيه القيام بعدة خطوات منها ضمان الاكراد للحقوق السياسية للاقليتين السريانية المسيحية والتركمانية المسلمة، وكذلك تحريك بعض القطاعات السكانية لضمان تجانس كل اقليم ” (صفحة126) وهذه النقطة تفتح الباب واسعاً لشتى التأويلات اقربها واخطرها الى التطبيق فكرة التهجير والتنظيف العرقي، لسبب واحد وهو ان الكاتب وضع نفسه في مربع منهجي لايستطيع الفكاك منه، ولم يستوعب منهجياً وبشكل كافٍ فكرة قيام نوع من الادارة المحلية او الذاتي على اساس من التركيبة السكانية المختلطة، عدا ذلك لايوجد ميل في الوقت الحاضر لدى الاكراد او التركمان او الآشوريين للاستقلال وتشكيل الكيانات المستقلة، حيث ان الظروف السياسية التي مر بها العراق في العقد الماضي اجبرت جميع الاطراف على ابداء نوع من العقلانية في النظر الى هذه القضية. اضافة الى ذلك فان تشكيل الكيان المستقل او تحديد الكيفية التي تتم بها الادارة السياسية في الاقليم تعتمد بشكل رئيسي على تطور الفكر القومي وخصائصه، ومشروع صيغة فكرة الوطن داخل كل اقلية على حدة. فالتركمان في مؤتمرهم القومي الاول في نوفمبر 1997 حددوا اهداف الحركة القومية التركمانية “… في السماح للتركمان باستخدام لغتهم وفلكلورهم، وعدم التمييز في شتى مناحي الحياة بين القوميات داخل العراق، واعتبار العراق وحدة اقليمية واحدة تشكل وطناً للجميع..” ص81 .

والعقدة الرئيسية في مثل هذه الكيانات هو تداخلها الجغرافي والثقافي الذي يصعب معه جعل هذه الاقاليم نقية من الناحية القومية. فعدا المناطق التي تستوطنها اكثرية كردية ساحقة هناك مناطق للآشوريين في شمال العراق متداخلة مع مناطق كردية وعربية، فما الذي ينبغي عمله بالنسبة للاشوريين او للاكراد او للتركمان من اجل اقامة كيانهم المستقل في ظل هذا التداخل ؟ هناك حلان لاثالث لهما: الاول : الحل البعثي القديم أوالبلقاني الجديد: وهو “التنظيف العرقي”، اي على الاكراد ترحيل الآشوريين والتركمان واليزيدين والعرب سوية حتى يخلو لهم الجو ضمن السيناريو المقترح او العكس بالعكس. والحل الثاني هو التعايش المشترك ضمن الواقع التاريخي والجغرافي المشترك. فاي الحلين الاقرب الى الواقع ؟
وبالنسبة للطريقة التي ينظر القانون الدولي الى الاقليم المتعدد القوميات والطريقة المثلى لادارته، فلم يعطنا المؤلف صورة واضحة عن ذلك (صفحة 124) ، واعترف ايضاً بأن مبدأ حق تقرير المصير قد تآكل. عدا ان كان هذا القانون له احكام محددة فيه، غير انه يدلو فيه بدلو الاجتهاد القانوني ويقترح قيام مبدأ الاقليم (126) من خلال دراسته واستعراضه للبدائل المطروحة في حالة عدم نجاعة الانفصال كحل لقيام الكيان السياسي المستقل لهذه القومية او تلك. ومن البدائل التي يطرحها الكاتب هو الحكم الذاتي.
واذا اخذنا بنظر الاعتبار ان الاكراد ينظرون الى كركوك بأعتبارها ” قدسهم المقدسة” فيمكن لنا ان نتصور مدى شدة المعارضة لهذ الفكرة لدىالتركمان الذين يعتبرون كركوك موطنهم ومعقلهم الحصين.

اما الحركات القومية الاشورية في داخل الوطن والتي ساهمت في التركيبة الجديدة للاقليم في شمال العراق لم تنفك عن اعلان انتمائها الكامل الى العراق، وتربط مابين تحقيق الديمقراطية للعراق وضمان تحقيق الحقوق القومية للاقليات العراقية المختلفة.

وفي رأيي فان هذه السيناريوهات المقترحة المستمدة من التجربة البلقانية المريرة ليست عقلانية ولاتمت للواقع العراقي بصلة. فجميع القوميات التي ذكرها الكاتب ليست قوميات مهجرة من مكان آخر اجبرت على ترك اوطانها واستيطان العراق رغم ارادتها، بل هي جزء من الشعب العراقي والوطن العراقي منذ آلاف السنين، فشمال العراق او كرستان لم يكن اقليماً مغتصباً او مقتطعاً من دولة اخرى بالقوة وجرى ضمه الى العراق بل هو جزء اصيل وأساسي منه حتى قبل أن يقطنه الاكراد انفسهم، ولم يتكون العراق من خلطات قومية عشوائية فرضتها الارادة البريطانية، فجميع الاقليات العراقية ساهمت بصنع تاريخ العراق الاجتماعي والحضاري على مر التاريخ وهي جزء منه.

التدويل وخلق تجربة جديدة في شمال العراق …

ومنطقة شمال العراق تجد نفسها قائمة كوحدة ادارية وثقافية ومتميزة عن بقية مناطق العراق قبل قرار الامم المتحدة ومجلس الامن بشمول منطقة شمال خط العرض 36 ، وهي تشمل كما هو معروف محافظات السليمانية واربيل وكركوك ودهوك والموصل، كما انها تتنوع في تركيبتها الدينية والاثنية. فاضافة الى النسبة الكردية المتغلبة هناك ايضاً العرب والتركمان والارمن والآشوريين (الآثوريين منهم والسريان والكلدان) واليزيديين والشبك والعلي الهية والماولية والصارلية وغيرها من الطوائف الدينية والقومية التي يتم ادخالها قسراً من ناحية الانتماء اللغوي والثقافي الى بعض القوميات الكبرى كالعربية والكردية او التركية. وللالمام بصورة مفصلة عن منطقة شمال العراق ينبغي الاطلاع على كتاب الدكتور شاكر خصباك “العراق الشمالي” الصادر عام 1973.

والتدويل الذي شمل الوضع السياسي والاداري وحصة النفط مقابل الغذاء كان مؤثراً بقوة في شمال العراق حيث دخلت المنطقة في عهده طوراً جديداً من الحكم الاداري الذاتي المستند الى الخبرة المحلية للاقليات وخصوصاً الكردية. وكان قيام هذا الكيان المدعوم من الخارج قد فجّر العديد من الاشكاليات في مقومات الدولة العراقية واسسها القانونية والتاريخية. وافضل تعبير عن هذا التطور هو تبني الفيدرالية كمبدأ وقاعدة للتعامل والعلاقة مع السلطة المركزية وقبول ذلك من قبل اغلب قوى المعارضة السياسية العراقية، غير النظام السياسي في العراق الذي يستلهم في حكمه قاعدة بقاء القديم على قدمه لايعترف مطلقاً بهذه الصيغة، ولايذهب ابعد من قبول صيغة الحكم الذاتي للمنطقة.

وخشية الحكومة العراقية من هذه التطورات لها مايبررها، فاستمرار الادارة المحلية الكردية في الحكم، ورسوخ خبراتها الادارية والقانونية والسياسية يثبت أولاً نجاح تجربة جديدة في العلاقة بين الاقاليم والدولة العراقية على الضد من الاسلوب المركزي الشديد المتبع في ادارة المحافظات العراقية، بواسطة فرض العنصر التكريتي أوالحزبي المعين من قبل بغداد، واستبعاد اهل المحافظة من حكم انفسهم بأنفسهم رغم ولائهم للمركز، والتخوف ثانياً من ان تتشجع محافظات او اقاليم اخرى لان تحذو حذو اقليم شمال العراق في اقامة نمط جديد من العلاقة الادارية والقانونية مع الدولة، وثالثاً التخوف من تطور الامور الى انفصال قد يحصل لهذا الاقليم عن العراق، الامر الذي يبقى كابوساً يقض مضاجع بغداد، ويدفع الحكم الى التفكير المحموم بكل الطرق التي تستهدف اعادة الكبش الكردي الضال الى القطيع العراقي.

وقد افرزت التطورات السياسية في العراق وخصوصاً في شماله بعد حرب الخليج، وبعد ظهور الاقليم الذي يحكمه الاكراد في ظل الحماية الدولية بعض التطورات في الفكر القومي لدى جميع الاقليات بدون استثناء بعد تغير المعادلة السياسية في شمال العراق التي بموجبها تحول الاكراد من فئة محكومة الى أقلية حاكمة. قبل ذلك التاريخ كانت البرامج والسياسات القومية لهذه الاقليات تتأثرسلباً بالسياسات الرسمية للحكومات العراقية وتتطابق بشكل يكاد يكون كلياً مع الطرح القومي الكردي، لكن بعد انحسار نفوذ الدولة العراقية عن منطقة شمال العراق، وتضاءل خطرها بدأت بالظهور الى السطح مجموعة من التناقضات الثانوية بين الاقلية الكردية المتغلبة وبين الاقليات الاصغر حجماً من حيث الاختلاف في النظر الى الهوية القومية للاقليم، والطريقة التي تُعامل بها هذه الاقليات ضمن الاقليم الجديد. فالاكراد التواقين الى نيل حقوقهم القومية وجدوا في تأسيس هذا الاقليم تحقيقاً ولو جزئياً لامانيهم القومية، غير أن الصيغة الكردستانية قد اثارت مخاوف الاقليات الاخرى التي رأت فيه، وخصوصاً بعد نشوب المعارك بين الطرفين الكرديين الرئيسين عودة غير موفقة الى الوضع الاقلوي الذي عانت منه ضمن اطار الدولة العراقية.

الدولة العراقية .. التاريخ والتركيبة المتعددة .
أشارالكاتب الى دور القوى الاجنبية في تحديد شكل الدولة العراقية المعاصرة التي قامت على اساس من تخلي بريطانيا عن وعودها للاكراد وللآشوريين بدول مستقلة تستقطع مساحاتها من مساحة الولايات العراقية التي كانت جزءأً من الامبراطورية العثمانية. ويشير في هذا الصدد الى قضية الموصل او ضم كردستان الجنوبية للعراق.( ص 38 ). في هذا الاستنتاج التاريخي اختلط البعدان – السياسي الدعائي، والدراسي الموضوعي، ففيما يتعلق تأكيد الكاتب على بناء الدولة العراقية الجديدة على اساس قومي فقط يفتقر الى الدقة التاريخية، ويعاني من نقص متابعة تطورات السياسة البريطانية تجاه العراق. نعم لقد كان الكاتب محقاً في دور السياسة البريطانية الاستعمارية في مؤتمر القاهرة عام 1920 في “تفصال” الدولة العراقية التي قامت على اساس ابقاء التشكيلة العثمانية، غيران التهديد الكبير الذي شكلته ثورة العشرين المعادية للانكليزعام 1920، والدور الحاسم الذي لعبته القبائل الشيعية فيها جعل بريطانيا تأخذ بمبدأ التوازن الطائفي وليس القومي في رسم الخريطة السياسية للدولة الجديدة، فتم اقرار ضم الموصل الى العراق من اجل استقرار التوازن الطائفي بين السنة والشيعة المسلمين فيه، حيث سيشكل اكراد العراق السنة مع اقرانهم العرب والتركمان نسبة تعادل نسبة الشيعة العرب الذين سوف يكونون متغلبين في هذه الدولة في حالة عدم ضم الموصل اليها، وقد جرى التفصيل فيه من قبل جرجيس فتح الله في كتابه “مغامرة الكويت – الوجه والخلفية ” ،ج2 ص572. اما ما يتعلق بضم كردستان الجنوبية الى العراق فان ذلك يدخل في باب السياسة والايديولوجيا القومية اكثر مما يدخل في البحث الموضوعي، ومثل هذه المصطلحات الجغرافية المسيسة ليست اقل رواجاً في الوسط العربي كمشروع الهلال الخصيب وسوريا الكبرى وغيرها.

وما اذا كان العراق كدولة ذات تعددية دينية لغوية وثقافية منذ القدم فهذه حقيقة عرفها العراق منذ عهود السومريين والاكديين والبابليين والآشوريين وحتى الدولة الساسانية ووصولاً الى الامويين والعباسيين، وقد اجاب الكاتب نفسه عنه في الفصل الثاني المتعلق بالتشكل التاريخي للاقليات واوجد لها اصولاً تاريخية عريقة في العراق منذ اقدم الازمان. فاذا كان التركمان قد استوطنوا العراق منذ الفتح الاسلامي، والاشوريون الحاليين ينتمون الى آشوريي ماقبل الميلاد فلماذا يعتبر المؤلف هذه القوميات اقليات تعود لشمال العراق فقط، وليس للعراق كله؟
ان تاريخية التعددية تجيز لنا القول بأن هذا المبدأ لايتناقض مع تأسيس دولة مركزية قوية تتألف قوامها من اقوام وشعوب وثقافات واديان مختلفة، شريطة اعتراف الدولة بهذه التعديدة، على اساس من العدالة والمساواة بين المواطنين، بمعنى آخر فان التعددية بحد ذاتها ليست هي الآفة التي تهدد الكيان الموحد، بل انها تكمن في التمييز في الحقوق بين افراد المجتمع وتقسيمه الى سادة وعبيد، اقطاعيين واقنان.

اشكالية محافظة كركوك ..

من حسنات الكتاب اثارته لبعض الاشكاليات المستعصية في البنية السياسية العراقية، وصراع المفاهيم والايديولوجيات حول الطريقة التي يتم بها التعامل مع واقع التنوع الثقافي والقومي للمناطق المختلطة، والطريقة التي يتم بها استخدام العامل التاريخي والديموغرافي لمصالح العامل السياسي لكن من دون ان يدخل فيها مباشرة. ومدينة كركوك العراقية هو مثال نموذجي لهذه الاشكالية. وعنصر التعقيد يرتبط بتاريخ هذه المحافظة، وطبيعة التركيبة الاثنية لها، والاخير والمهم هو ثرواتها النفطية الهائلة.

كانت كركوك ولاتزال محل تنازع شديد بين الحكومة العراقية والاكراد خلال الثلاثة عقود الاخيرة، ورفضت الحكومة بشدة اثناء مفاوضات معاهدة الحكم الذاتي في بداية السبعينات على ادخال كركوك ضمن منطقة الحكم الذاتي، وحتى في المفاوضات التي جرت بين الاكراد والحكومة العراقية بعد حرب الخليج احتفظت الحكومة العراقية بحقها في السيطرة على كركوك، ولم يجد الاكراد بداً من القبول بذلك على مضض من دون ان يفقدوا الامل في السيطرة عليها يوماً.

يصل تاريخ مدينة كركوك الى عصور سحقية في القدم، واظهرت التنقيبات الاثارية في المنطقة وجوداً لهذه المدينة في فترة الالفين قبل الميلاد باسم أرابخا، وأطلق الآشوريين عليها لاحقاً اسم كرخا، وبقت هذه التسمية ساريةً حتى العهود الساسانية مع بعض التحوير حتى اصبحت كرخ سلوخ التي اشار اليها البير ابونا في كتابه ” تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية ” على انها احدى اهم المقاطعات الكبرى في الكنيسة الشرقية التي تضم: ساليق ، وبيث لافاط (جنديسابور)، ونصيبين، وفراث ميشان (البصرة)، وحدياب وهي منطقة اربيل الحالية. (صفحة 50 ج1).

احتلت كرخا، هذه المدينة الاشورية موقعاً استراتيجياً مهماً لانها كانت تمثل نقطة التقاء في منظومة المواصلات في الامبراطورية الاشورية المؤدية من العاصمة الى بابل ولاحقاً نحو الجنوب، وقد تطلبت هذه الاهمية بناء قلعة محصنة حولها، وكانت عمليات الترميم تجرى لهذه القلعة التاريخية بشكل متواصل. وتغير اسم المدينة اثناء الفتوحات الاسلامية الى “باجرمي” التي اشارت اليها مؤلفات الجغرافيين العرب في العصور الوسطى، وبقيت كذلك حتى القرن الثاني عشر الميلادي حيث تحول اسم باجرمي الى كرخيني، كما بينت ذلك مؤلفات الجغرافيين والمؤرخين المعروفين كابن الاثير، وابن الفوطي وياقوت الحموي، والهمداني. غير ان اهمية المدينة الاستراتجي قد تناقص في الفترة التي سبقت الغزو المغولي للعراق، فاصبحت كرخيني تابعة لداقوق التي تعاظم شأنها في ذلك الوقت. واعاد قيام حكم الامارات التركمانية المعروفة بأسم قرة قوينلو وآق قوينلو في القرن الخامس عشر الميلادي في العراق وايران الاهمية الى كرخيني فاصبحت تسمى كركوك منذ ذلك الحين. وازداد الاهتمام بها بعد اكتشاف النفط بها بكميات هائلة عام 1917. وبعد ان اصبحت تشكل اكبر احتياطي مكتشف في العراق على الاقل قبل اكتشاف مخزوني حقلي الرميلة ومجنون في البصرة، ولاعجب إن سمى جلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني كركوك “قدس الاكراد”، ولا اظنه يخطأ في ذلك، فالحديث عن بناء دولة للكرد في شمال العراق لاتضم كركوك ونفطها لايبدو سوى هراءً ، غير ان ليس هناك اشد مرارة من ان تفوح رائحة النفط من أي مشروع قومي يراد له ان يكون ذا قدر من الشرعية.

التركيبة الاثنية لمحافظة كركوك ..

اما الخاصية الاثنية والقومية لكركوك فقد سببت لهذه المدينة آلاماً لاتحصى، فالاكراد والعرب والتركمان في الوقت الراهن يدعون ملكيتها. والجميع يتجاهل الاصل الآشوري العريق لهذه المدينة، وهذا فصل مأساوي جديد في هذه الملحمة. فقد كان الآشوريون سادة منطقة شمال العراق لآلاف السنين على الصعيد الديموغرافي والسياسي، الا انهم اكتسحوا منها تدريجياً بعد سقوط نينوى في 665 ق.م ، وحتى اليوم. وكان من تأثير هذا التغيير السياسي والديموغرافي ان تحول الآشوريون من السهول الى الجبال بسبب الخوف من الاستئصال، وتحولت الكثير من المناطق الآشورية التقليدية الى مناطق كردية كحدياب (اربيل) او عربية كبعقوبا وغيرهما التي مازالت تحتفظ بأسمائها الآشورية القديمة. ولم تقل مآسي الآشوريين بعد زوال الحكم الآشوري وتحولهم الى امة محكومة ، فتحولهم للمسيحية جلب اليهم المزيد من الكوارث سواء على يد الفرس الزرادشتيين او البيزنطينيين الوثنيين، وبعدها الكنيسة الرومانية الغربية التي عاملتهم بمنتهى القسوة. وبعد فترة من التقاط الانفاس إبان الحكم العربي الاسلامي إستمرت لعدة قرون، جاءتهم موجة جديدة من الاضطهاد الاجنبي على يد المغول الذين اجبورهم الى النزوح من مناطقهم السهلية الى المناطق الجبلية. ان تحول الآشوريين الى المسيحية جلب عليهم نقمة كل السلالات الحاكمة والاقوام التي تعاقبت على حكم المنطقة والتي كانت تنظر لهم نظرة الريبة والشك الى مواطنتهم بطريقة لاتختلف كثيراً عن الطريقة التي تجري اليوم في بلدان الشرق الاوسط التي تدين بالاسلام. وقد ادى هذا التاريخ الطويل من الاضطهاد الىاخلاء الارض من الآشوريين اما هجرة او تقتيلاً او تحولاً عن المذهب. وتضم مدينة كركوك مجموعة من المسيحيين اعتبرهم بعض الباحثين العراقيين كالدكتور شاكر خصباك وشاكر الضابط بانهم تركماناً مسيحيين لانهم ينطقون باللسان التركي، غير انهم ليسوا كذلك في الواقع، فليس كل من تكلم التركية هو بالضرورة تركي او تركماني، لأن التركية لغة شعوب كثيرة تتوزع على مناطق هائلة في آسيا وحتى اوربا الشرقية والجنوبية. وهؤلاء المسيحيين “التركمان” في كركوك لم يكونوا في الواقع سوى مهاجرين من مناطق ماردين الآشورية العريقة، التي طالها التتريك فاضطروا اما الى تبني العربية او التركية أوالتحول نحو الاسلام ديناً. وقد التقيت اثناء دراساتي وتفحصاتي عن الآشوريين في المهجر بالعديد من اهل ماردين المهاجرين الذين كانوا يخاطبونني بالعربية التي يستعملونها كلغة التحدي لمواجهة التتريك، وكانوا يؤكدون بان آبائهم وأجدادهم كانوا سرياناً إلى حد قريب.

اما العنصر التركماني في كركوك فهو قديم، ويعود الى العهود الاسلامية الاولى وهجرة القبائل التوغوز اغوز السلجوقية التركية والتركمانية لاحقاً الى منطقة الشرق الاوسط عموماً والعراق خصوصاً من مناطق اسيا الوسطى، ولايمت بصلة الى الوجود التركي في الاناضول، بل هو يقيناً اقدم منه. ويتركز الوجود التركماني في المناطق السهلية الزراعية، كطوزخرماتو وداقوق وكفري والتون كوبري اضافة الى امتدادات آخرى في تلعفر وجنوباً نحو ديالى. وتضم كركوك وخاصة في ضواحيها مثل الحويجة قبائل عربية كالعبيد والجبور وألبوحمدان هاجرت قبل عدة قرون الى هذه المنطقة، وهؤلاء لايمتون بصلة الى سيل الموظفين والمستوطنين العرب الجدد الذين تم اسكانهم في كركوك كجزء من سياسة التعريب الرامية الى تغيير الصبغة الاثنية والديموغرافية لمنطقة شمال العراق ككل.

وقد تعاظمت اهمية كركوك بعد قيام منطقة الملاذ الآمن وذلك بالارتباط مع جهود الكومة العراقية الرامية بأعتبار كركوك خط الانقضاض الاول على الحكم الذي اقامه الاكراد في شمال العراق، كما ان إناطة مسؤولية ادارة كركوك الى نائب رئيس الجمهورية عزت الدوري ماهو الا دليل على مدى الاهمية الاستثنائية التي توليها بغداد لكركوك.

يجيد اهل مدينة كركوك لغات بعضهم البعض فالتركمان والاكراد والعرب والاشوريين والارمن يفهمون بعضهم البعض بالعربية والكردية والتركية والاشورية والارمنية، وهذا دليل على روح الالفة والجوار التي رسخها تاريخ العراق الحضاري في اذهان الشعوب والاقليات التي تشاركت في هذه المنطقة على الضد مما اراد لها الحكام والطغاة من تكره وتحارب بعضها البعض تحت غطاء الدين او الايديويولوجيا القومية البغيضة.

خاتمة ….

من العناصر المهمة في بحث أي موضوع يتعلق بتشكيل كيانات سياسية ذات طابع متعدد هو عنصر النظرة الى الهوية القومية عند كل مجموعة من المجموعات السكانية ، والكيفية التي تنظر بها الى ذاتها والى تاريخها وعلاقتها ببقية المجموعات . وفي هذا المجال حدثت تطورات مهمة على صعيد اعادة النظر بمقومات وخصائص الهوية الوطنية والذاتية لجميع القوميات العراقية في شمال العراق. واذا اخذنا اليزيديين على سبيل المثال فنرى ان هناك تحولاً كبيراً في نظرتهم الى ذاتهم وتاريخهم متمثلة في محاولات العديد من الكتاب اليزيديين ومنهم خليل جندي في اعادة كتابة التاريخ اليزيدي من منطلق الانتماء الى حضارة ارض الرافدين ككل، وكذلك لنا في افكار الامير معاوية التي طرحها في العديد من اللقاءات الصحفية التي اجريت معه، وخصوصاً تلك اجراها معه الكاتب العراقي سليم مطر والتي اكد فيها على انتماء اليزيدين الى العراق حضارة ً والى الآشوريين شعباً. وشخصياً ارى في ذلك مثلاً يمكن ان يحتذى به من جميع القوميات العراقية لبناء اسس راسخة وصحيحة لهوة عراقية رافدينية لايعلوها غبار الشوفينية والتعصب القومي والطائفي البغيض. فالانتماء الى حضارة بلاد الرافدين جغرافيا وتاريخاً هو اساس متين لجميع العراقيين ينطلقون منه في النظرة الى شخصيتهم القومية وتراثهم الوطني، فما الذي يفيد العربي العراقي من التغني في الانتماء الى صحراء رملية لاتقي من حر ولاتسمن من جوع ؟ وماذا يزيد انتماء الاكراد الى جبال جرداء موحشة لاغناء كيانهم الحضاري؟ في حين يكفينا فخراً ان ننتمي الى حضارة عظيمة اعطت للبشرية اول الحضارات وانظمة الكتابة والري في التاريخ، الا يصلح هذا لان يكون اساًساً صلباً لهويتنا المشتركة بدلاً من التنابز بالالقاب؟

وعندما تتقبل القوى السياسية العراقية والمعارضة منها بشكل خاص موضوعة الفيدرالية كشكل من اشكال ادارة الدولة فان ذلك يعني الرضوخ للنزعة التفتيتية للكيان العراقي الواحد. فهذه الفدرالية اوالحكم الذاتي او الادارة الذاتية وغيرها من الاشكال والمسميات التي مافتأت الحناجر الديمقراطية تلهج بالثناء عليها على انها اكتشاف العالم المذهل لامراضنا السياسية هي حلول ووصفات صحيحة، لكنها لايمكن ان تنجح في بلادنا، مادامت الهيمنة سائدة لثقافة التقاليد والاعراف العشائرية والروابط الاسرية المؤثرة التي تمسك بخناق تركيبة احزابها السياسية وموقفها القبلي التقليدي القائم بالاستئثار بالكل والغاء هويات الآخرين. ان الفيدرالية او الحكم الذاتي هي تعبيرات بلاغية للسياسة في مراحلها العليا المتطورة، وبناء فوقي متمم لخيارات الديمقراطية، ونتيجة لارساء دعائم مؤسسات الحكم المدني في المجتمع العراقي، او في أي مجتمع من مجتمعات الشرق الاوسط والعالم الثالث، الامر الذي لم يحدث لحد الآن. واذا تم استخدام هذ المصطلحات على نطاق واسع في الادبيات الدعائية السياسية فان ذلك لايكون سوى من قبيل التشدق اللفظي الفارغ.

لقد قامت جميع الكيانات السياسية من اسر حاكمة وسلالات وافراد طواغيت في العراق- على الاقل- على اساس من سرقة السلطة وغمط حقوق الفئات المستضعفة تحت اسماء ومسميات مستعارة من الادب السياسي الرفيع الذي لايمت للواقع بصلة، وربما كان البون الشاسع بين النظرية والتطبيق سيكون وراء سقوط هذه الكيانات التي لم تكن تفكر مطلقاً بمبدأ التكافؤ والتكافل الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية كحدث تخلقه ارادة الناس وليس بمنةٍ من الحاكم.

د.محمد البندر
الحوار المتمدن
2002 / 12 / 9


تنويه; موقع http://nala4u.com يتبنى التسمية الاشورية وغير ملزم ما يسمى بكردستان ولاهمية المادة..لذا تم اعادة نشرها مع التقدير

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, كتب , تاريخ. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.