الدور السياسي للكنيسة الكلدانية في العراق(القسم الثاني)

بقلم د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
الدور السياسي للكنيسة الكلدانية في العراق (القسم الثاني)

24/ 01 / 2019
http://nala4u.com

ثانيًا: الفكر السياسي للكنيسة الكلدانية

تاريخيًّا، «كانت الكنيسة الكلدانية أول كنيسة شرقية تتّحد مع روما سنة 1553، إذ انشقت عن الكنيسة النسطورية».[1]وقد تناوب على رئاستها 18 بطريركًا من 1553- 2013. وآخر بطاركتها هو البطريرك الحالي مار لويس روفائيل ساكو، الذي تم تنصيبه بطريركًا للكنيسة الكلدانية في 1 فبراير (شباط) 2013. [2]

ومن المفترض أنها تعالج قضاياها، ومن بينها مسألة تعاطي الكنيسة ورجالها السياسة، طبقًا لتعليمات الكنيسة الكاثوليكية في روما.

وقد تطرق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962- 1965) [3]في الدستور الرعائي «الكنيسة في العالم المعاصر» إلى موضوع حياة الجماعة السياسية؛ إذ خصص فصلًا كاملًا لهذا الموضوع بعنوان «الجماعة السياسية والكنيسة»، نقتبس منه الفقرة 76، التي تنص على ما يلي:

76- إنه لفي بالغ الأهمية أن ننظر نظرة صحيحة إلى العلاقات بين الجماعة السياسية، والكنيسة، لا سيما في المجتمعات التعددية. ويجب أن نميز بوضوح تام بين الأعمال التي يقوم بها المؤمنون، أفرادًا أم جماعات، باسمهم الخاص، بوصفهم مواطنين مسترشدين بضميرهم المسيحي، والأعمال التي يقومون بها باسم الكنيسة، وبالاتحاد مع رعاتهم.

نظرًا إلى مهمة الكنيسة وصلاحيتها فهي لا تختلط بحال من الأحوال بالجماعة السياسية، ولا ترتبط بأي نظام سياسي. إنها العلامة والضمانة لما يمتاز به الشخص البشري من تسام ٍ.

فالجماعة السياسية والكنيسة مستقلتان، لا ترتبط الواحدة بالأخرى في الحقل الخاص بكل منهما. غير أنهما تقومان، وإن بأدوار مختلفة، بخدمة الدعوة الفردية والاجتماعية للناس ذاتهم. وإنهما لتقومان بهذه الخدمة لخير الجميع، وبمزيد من الفاعلية، بقدر ما تحاولان دائمًا أن تتعاونا تعاونًا صحيحًا نسبة إلى ظروف الزمان والمكان أيضًا.[4]

والنقطة الأهم في هذه الرسالة الكنسية الكاثوليكية، هو التفريق بين المؤمنين (المسيحيين) في الحياة السياسية، ودورهم فيه، وبين الكنيسة (رجال الدين) ودورهم فيها، مشدّدة على أن دور الكنيسة يختلف عن دور الجماعة السياسية، ويجب التمييز بينهما؛ لأن «الكنيسة لا ترتبط بأي نظامٍ سياسي».

وتُحظر الكنيسة الكاثوليكية التدخل في الشأن السياسي، وتعتبرها مهمة قاصرة على العلمانيين. وقد جاء هذا الحظر في التعليم الكاثوليكي المسيحي البند 2442:

ليس من اختصاص رعاة الكنيسة التدخل المباشر في البناء السياسي وتنظيم الحياة الاجتماعية. فهذه المهمة جزء من دعوة المؤمنين العلمانّيين، العاملين بمبادرتهم الخاصة مع أجل مواطنيهم. ويمكن أن يكون للعمل الاجتماعي سُبل واقعية متعددة. ويجب أن يكون أبدًا لأجل الخير العام، ومتوافقًا مع الرسالة الإنجيلية والتعليم الكنسي. ويعود إلى المؤمنين العلمانيين «أن يُحيوا الشؤون الزمنية بغيرة مسيحية، وأن يسلكوا فيها كفعلة سلم وعدالة». [5]

وقد طرح موضوع العلاقة بين الكنيسة، والسلطة بشكل مثير للجدل بعد تقلُد لويس ساكو منصب بطريرك بابل على الكلدان في عام 2013، وبعد أن تخلى، عمليًّا، عن مفهوم الفصل بين الكنيسة، والسياسة التي أعلنها عقب توليه المنصب مباشرة.

فثارت الانتقادات من أتباع الكنيسة الذين لم يَعهدوا أن يمارس رجال الكنيسة الكلدان هذا الدور السياسي، والذي لعبته الكنيسة الآثورية عند تشكيل الدولة العراقية بداية القرن العشرين، ودفعت هي وأتباعها ثمنًا باهظًا في تصدي الجيش العراقي لهم في مأساة سميل عام 1933. بينما ارتأت الكنيسة الكلدانية أن تنأى بنفسها عن دهاليز السياسة وتقلباتها، وهذا ما جنبها هي وأتباعها صدمات السلطة طيلة أكثر من 80 عامًا. إلا أنها بعد عام 2003 وإثر سقوط نظام صدام حسين، وبتشجيع من الأمريكان ومجاراة لرجال الدين المسلمين وخاصة الشيعة منهم، لذا فقد قررت دخول المجال السياسي منذ اليوم الأول، وسعى المطران عمانوئيل دلِّي إلى الاشتراك في مجلس الحكم المؤقت، إلا أن الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر رفض ذلك. [6]

وبعد موجة الانتقادات الكثيرة للكنيسة الكلدانية وموقفها من السياسة والسلطة، الذي يبدو في ظاهره مناقضًا لباطنه. فعلى الرغم من كثرة الادعاءات بعدم التدخل في السياسة ولعب دور سياسي، إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك. وخير دليل على رغبة الكنيسة في ممارسة السياسة ولعب دور سياسي متميز على صعيد السلطة، هو التنظير السياسي الذي يقدمه البطريرك الكلداني ذاته، ويعززه عدد من الكتاب المسيحيين الموالين للبطريرك والمبررين لمواقفه. وقد انطلقوا يبّررون تدخل رجل الدين في السياسة بحجج وذرائع شتى. إن من يتصفح موقع البطريركية الكلدانية سيجد عددًا لا بأس به من أمثال هؤلاء الدُعاة ووعاظ السلاطين.

وفي هذا المجال فقد دبَّج البطريرك الكلداني ساكو أو إعلام البطريركية عددًا من المقالات حول ذلك، منها:

1. توضيح حول دور البطريركية الكلدانية وتحركاتها

«من المؤسف أن نسمع من بعض رؤساء الكنائس في بغداد انتقادات حول تحركات غبطة البطريرك الكلداني وزياراته وتصريحاته.

البطريرك ساكو يمثل أكبر كنيسة مسيحية في البلد، له أبرشيات لا توجد للكنائس الأخرى، ولو كشفنا عن إحصائياتها لصدم المنتقدون. للكلدان في العراق إمكانات بشرية ومالية وثقافية وسياسية، وبإمكانهم التفرد بها، لكنهم مسيحيون منفتحون وغير متعصبين، ويساعدون الكل من دون النظر إلى هويتهم، الكل يعلم ماذا قدمت الكنيسة الكلدانية للمهجرين، والبطريرك نفسه دعا عدة مرات إلى الوحدة وإلى تشكيل مرجعية سياسية مسيحية»![7]

2. المشهد السياسي المسيحي في العراق

«كان قد طرح غبطة البطريرك ساكو منذ بداية تسنمه لمسؤوليته مشروع تكوين مرجعية سياسية علمانية موحدة للمسيحيين على قاعدة الكفاءة. هذا الطرح رفض بحجة أن المسيحية ديانة وليست قومية. وكلما بادر لجمع شملهم برزت الاختلافات والتوجهات المنفعية الذاتية الشخصية أو القومية». [8]

3. جدل الكنيسة والسياسة والموقف المبدئي

«الكنيسة والسياسة موضوع لا غرابة يثير الجدل، وقد تكتنفه الضبابية، عندما تطلق الآراء بشتى الاتجاهات وعلى مختلف المستويات. وتأتي كتابة هذا المقال من موقع بطريركي مسؤول، لنوضح الرؤية للقارئ الكريم، وخصوصًا لأبناء كنيستنا الأحبة، من حيث الموقف المبدئي من هذا الجدل والتعامل الكنسي التراتبي معه… للمسؤول الكنسي الأعلى كلمته وموقفه، ومن باب أولى في أوقات الأزمات، وذلك للدفاع عن الشعب وحقوقه. ولكن أين يكمن الفساد؟». [9]

4. الكنيسة والشأن العام [10](السياسة)

«الكنيسة تتدخل عندما يتعلق الأمر بالبلد والناس في قضايا مصيرية. وصمتها غير مقبول في مثل هذه الحالات! ومن حق الكنيسة التدخل في الشؤون العامة وممارسة تأثيرها الإيجابي في الوضع العام. ويجب أن تكون للكنيسة كلمة في الشأن العام Res publica[11] كالتغييرات الجادة التي طرأت على المجتمع في مجالات عدة، وما نتج منها من ظلم وإرهاب وإجحاف. إن الضرر الذي لحق بالمسيحيين خلال السنوات الماضية، رغم أنهم سكان البلد الأصليون، كان فادحًا، بتهجيرهم من أرض أجدادهم وتهميشهم ومسح معالمهم؛ مما اضطرهم إلى ترك البلاد، وتسبب في تقليص عددهم من المليون والنصف إلى نصف المليون. إنها مأساة إنسانية حقيقية».[12]

5. توضيح حول ما سُمّي بـتدخل الكنيسة في السياسة (الترشيحات)

«صدرت عن بعض الأشخاص والجهات الحزبية المسيحية تعليقات غير مسؤولة ومستفزة، وتفتقر إلى اللياقة الأدبية في موضوع تدخل الكنيسة في الشأن السياسي.

إن الكنيسة تهتم بالشأن العام وهو جزء مهم من رسالتها لخير الناس، وحفظًا لحقوقهم وكرامتهم، كما فعل المسيح ويفعل البابوات.

الكنيسة ليست بديلًا للدولة، ولا موازية لها، وإنما هي جزء من المجتمع وتسعى للشراكة الفاعلة من أجل تحقيق العدالة وتطبيق القوانين واحترام حقوق كل إنسان. ولما قال يسوع بشأن العُملة التي قدمت له: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. (متى 22/21) إنما قصد: أعطوا الضرائب لقيصر وهذا حقه، وأعطوا ما لله حقه؛ أي الطاعة وممارسة المحبة والرحمة والغفران تجاه بعضنا البعض». [13]

وفي تصريح آخر صدر عنها في 24 ديسمر (كانون الأول) 2018 ما يتناقض تمامًا مع هذا التوجه، ويبين بأن لا علاقة للكنيسة بترشيح وزراء. [14]

والواقع أن الشأن العام هو مصطلح فضفاض يسري على جميع المسائل ذات الاهتمام أو القلق المشترك، وتنصرف للسياسة والإعلام، والمسائل الاجتماعية والصحية والاقتصادية. فأسعار البترول هي شأن عام، ومرض الإيدز وغيره من الأوبئة هي شأن عام أيضًا.

وكانت الحركات الإسلامية من أوائل من استخدم هذا المصطلح للتدخل بالسياسة، لهذا ظهر نوع جديد من الفقه سُمّي بـ«فقه الشأن العام». «يستند على موقف أبي حامد الغزالي الذي يرى أن صلاح الدين مؤسس على صلاح الدنيا وليس العكس؛ لأن الإسلام أصول وفروع، السياسة من الفروع إذن لا يمكن أن نقطع الصلة بين السياسة وبين الدين، نحن نقول هناك سياسة شرعية ولذلك الحديث عن أنه تسييس الدين وتسييس الدين هذا خطأ، هذا كلام يريد أن يحول الإسلام إلى نصرانية تدع مال قيصر ومال الله لله… ويقصد بالشأن العام، التدابير التي تجعل الحياة حياة إسلامية سليمة، هذا معنى الشأن العام».[15]

ولكن ألا يُحَوّل تدخل رجل الدين المسيحي بالسياسة، المسيحية إلى الإسلام؟

انتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث والأخير.


الهوامش/
[1] البروفيسور جوزيف أبو نهرا، المسيحيّون وهاجس الحرية في العهد العثماني، بحوث مركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات- جامعة القديس يوسف، بيروت 2013، ص18.
[2] بطاركة الكنيسة الكلدانية منذ إنبثاقها 1553– 2013، موقع البطريركية الكلدانية، الرابط: https://saint-adday.com/?p=2417
[3] المجمع الفاتيكاني الثاني هو مجمع كنسي كاثوليكي يعتبر بحسب الكنيسة الكاثوليكية المجمع المسكوني الحادي والعشرون. انعقد بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرون بين عامي 1962 و1965، وصدر عنه جملة من المقررات والمراسيم والدساتير، مكملًا ما عجز المجمع الفاتيكاني الأول عن إنجازه بسبب سقوط روما بيد الثوار عام 1870؛ مما أدى لوقف أعماله آنذاك. تمخض عن المجمع إصلاحات مختلفة في جسم الكنيسة؛ فكانت أهدافه المعلنة تجديد الكنيسة الكاثوليكية روحيًّا، وتحديد موقفها من قضايا العالم المعاصر المختلفة. ويكيبيديا- الموسوعة الحرة.

يقول بريمر في مذكراته: «أخذنا ممثلًا للمسيحيين الآشوريين وتوقعنا أن يسبب ذلك استياء لدى الكلدان. وكان ذلك صحيحًا، إذ في تلك الليلة لم يكن قلب المطران يفيض بالمحبة المسيحية. فبعد التذمر من استبعاده، غادر غاضبًا». بول بريمر، عام قضيته في العراق، ترجمة عمر الأيوبي، بيروت 2006، ص 131.

[4] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وثائق، الجزء الثاني، الكنيسة في العالم المعاصر، الفصل الرابع (حياة الجماعة السياسية) (مطبعة العالم العربي، 1967) العدد (73ـ 76) ص 156ـ 165. الرابط: http://coptcatholic.net/وثائق-المجمع-الفاتيكاني-الثاني/
[5] التعاليم المسيحية للكنيسة الكاثوليكية، الجزء رقم 3، القسم # 2، الفصل # 2، الفقرة # 2442.
[7] توضيح حول دور البطريركية الكلدانية وتحركاتها، موقع البطريركية الكلدانية، في 2 يناير، 2016.
[8] المشهد السياسي المسيحي في العراق، موقع البطريركية الكلدانية، في 16 يناير، 2016.
[9] البطريرك لويس روفائيل ساكو، جدل الكنيسة والسياسة والموقف المبدئي، موقع البطريركية الكلدانية، في 16 مارس، 2016.
[10] يقصد بالشأن العام: المسائل ذات الاهتمام العام أو القلق، وخاصه تلك التي تتناول القضايا الاجتماعية أو السياسية الراهنة. وهو مصطلح فضفاض. انظر، https://www.dictionary.com/browse/public-affairs
[11] Res publica عبارة لاتينية ذات معنى فضفاض تعني «العلاقة العامة». والجذر من الكلمة «جمهورية»، والكلمة «كومنولث» تستخدم تقليديًّا مرادفة لها؛ ومع ذلك تختلف الترجمات على نطاق واسع وفقًا للسياق. «Res» هو التسمية للمفردة اللاتينية لشيء موضوعي أو ملموس – على العكس من «spes»، وهو ما يعني شيئًا غير واقعي أو أثيريًّا – و«publica» هي صفة مشتركة تعني «من و/أو المتعلقة بالدولة أو الجمهور». وبالتالي فإن الترجمة الحرفية هي «الشيء العام/الشأن». انظر، الويكيبيديا- الموسوعة الحرة.
[12] البطريرك لويس روفائيل ساكو، الكنيسة والشأن العام (السياسة)، موقع البطريركية الكلدانية، في 7 مايو، 2018.
[13] هذا تفسير جديد مختلف تمامًا عمّا ظلّت الكنائس الشرقية تردده طيلة ألفي سنة. انظر، توضيح حول ما سُمّي بـتدخل الكنيسة في السياسة (الترشيحات)، موقع البطريركية الكلدانية، في 16/12/2018.
[14] إعلام البطريركية: لا علاقة للكنيسة بترشيح وزراء، موقع البطريركية الكلدانية، في 24/12/2018.
[15] انظر، فقه الشأن العام، برنامج الشريعة والحياة– قناة الجزيرة، لقاء مع الداعية الإسلامي الدكتور محمد عمارة، في 13‏/06‏/2012.


هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, دين. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.