متى نَعي أن مصلحة الشعب فوق مصلحة الله؟

بقلم د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
متى نَعي أن مصلحة الشعب فوق مصلحة الله؟

15/ 01 / 2019
http://nala4u.com

عندما تسلم الرئيس ترامب السلطة في 15 كانون الثاني 2017، كانت أكثر الطلبات على مكتبه هي طلبات عراقية، حتى قيل في وقتها إنها بلغت أكثر من 3 آلاف طلب كلها تستصرخ الرئيس الجديد لإنقاذ العراق وتلمح إلى مسؤولية أمريكا، وبالطبع سال ترامب كل مستشاريه وطاقمه الحكومي عن ذلك مستغرباً، في حين كانت الكل تلّمح إلى إن وضع العراق جيد في العموم، ولا مشكلة حقيقية، وربما كانت هذه المعلومات خاطئة.
ولأن ترامب قد تربى في مدينة نيويورك المشهورة بعصاباتها ومافياتها، وهو رجل أعمال كوّن نفسه بصعوبة ونحت في الصخر ليصبح واحد من أثرياء أميركا، فانه لم يصدق ذلك، وبدأ يسقط بطاقمه واحدا تلو الآخر، إذ خرج من الخدمة وزير خارجيته، ومستشاره للأمن القومي، ووزير دفاعه، وسفيرته لدى الأمم المتحدة، وسفيره في العراق، ومبعوث الولايات المتحدة الخاص للتحالف الدولي، إما عن طريق الإقالة وبتغريدة بعد منتصف الليل، أو الاستقالة، حتى استقر إلى طاقم يلبي طموحاته ويطابق أفكاره. وعندما زاره العبادي والجعفري والوفد العراقي في آذار 2017، وبمجرد خروجهم قال انطباعه عنهم بأنهم مجموعة لصوص والأكثر إنجازا لسرقاتهم بنجاح. وقد كان محقا تماما في ذلك، وبالتأكيد كانت لديه معلومات عن إستخدامهم للدين لتبرير سرقة أموال شعبهم وتبديدها، وإنهم مجرد مجموعات دينية لا ترتقي لمجموعات السلطة وليسوا برجال دولة، بأي حال من الأحوال. وإن وقت التغيير قد أزف.
إن سرّ قوة أمريكا يكمن في إنها دولة متقدمة فكريا ودقيقة في تطبيق القانون، قبل أي شيء آخر، إضافة لقوتها العسكرية المتفوقة، وعندما سئل رئيس الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا في مقابلة تلفزيونية، عن سبب انتخابه لترامب وهو ليس بمؤمن ولَم ينتَخب هيلاري، وهي مؤمنة؟ فقال: صحيح، ولكن رأيت إن ترامب يحقق مصلحة أمريكا أكثر من هيلاري. وهذا يعني إن أكبر رجل دين في أمريكا يقدم مصلحة الشعب على مصلحة الله. وذلك ما لا نجده عن العرب المسلمين، الذين ما زالوا للأسف، وبغباء شديد يضيعون مصالحهم ومصالح أوطانهم وكل الناس القريبين منهم والذي يرونهم كل يوم من اجل مصلحة الله، وهو فكرة قال بها عدد من الأنبياء، وقدسّوها رجال الدين. في الوقت الذي تخلصت فيه أمريكا من موضوع تقديس الأشخاص والى الأبد. وتحضرني هنا عبارة بليغة للمسيح، يقول فيها: إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟
والحكومات العربية ومن خلفها شعوبها التي تتمسك بالدين في قشوره، كانت السبب في ضياع دولها، وتمزيق شعوبها. بينما نجد المسلمون من غير العرب، قد أدركوا هذه الحقيقة جيدا، وقدّموا مصالح دولهم وشعوبهم ومجتمعاتهم على الدين، حتى عندما تستلم الأحزاب الإسلامية السلطة فيها، وتركيا وإندونيسيا وماليزيا وغيرها خير مثال على ذلك. وهذا لا يعود إلى الحكومات فقط، بل يعكس فلسفة المواطن العربي الذي يرى ما زال في أي انتهاك بسيط حتى لو كان كسر زجاج في محل صغير (حراما) وليس خرقا (للقانون). ولكن المحرمات حددها الله في كتابه ولا يستطيع كائنا من كان أن يزيدها محرماً واحداً.
وهنا يجب التفريق بين (الجريمة) و (الخطيئة)، فدَور الدولة يتمثل في أن تحاسب على (الجريمة) في حق الغير فقط وفقا لقانون العقوبات والقوانين الأخرى، وليس من حقها أن تحاسب على الخطيئة، فالله يحاسب على (الخطيئة) لأنها معصية أرتكبت في حق الله.
وأسوا ما فعلته الحكومات العربية الحديثة بعد إنفصالها عن الدولة العثمانية، إنها جعلت الإسلام دين الدولة، فحولت هذه المؤسسة الكبيرة إلى شخصية (مؤمنة). بينما الدولة شخص معنوي (إعتباري) كالشركات والجماد، فهل للمنضدة دين؟ وإذا كان الله قد أعفى الحيوانات من الدين فكيف نطلب من الجماد ذلك؟ وبهذا الصدد، كتب أحد المصريين وهو الصديق الدكتور عادل عصمت على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي باللهجة المصرية المبسطة، قائلا: ” ولأن عبد الناصر إخوانجي، وأحد أبناء التيار الديني فهو من انشأ جامعة الأزهر عشان يطلّع المحاسب المسلم، والمهندس المسلم، والطبيب المسلم، وانشأ مدينة البعوث الإسلامية عشان ينشر الإسلام وعمل منظمة المؤتمر الإسلامي عشان يوحّد الشعوب الإسلامية، وعمل إذاعة القران الكريم، وخلي الدين مادة نجاح ورسوب لكن اخطر حاجه عملها انه حط الإسلام دين الدولة لأول مره في دستور 1956 في باب الدولة، الباب الأول، فحوّل مصر من دوله وطنية إلى دولة إسلامية.”
ولا تشّذ الدول العربية الأخرى عن ذلك النهج كثيرا. ففي العراق، فقد جرى استغلال مشاعر الشيعة من قبل الولايات المتحدة لتخريب العراق وإعادته إلى القرون الوسطى، كما صرح بيكر عام 2002، اعتمادا على المفهوم الشيعي الذي يعتبر أن لا عدل في هذه الدنيا في غياب الإمام، وسعى هذا الحكم الديني إلى تقسّيم الشعب إلى مكونات دينية وقومية، فظهرت مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل المكون السني والمسيحي وهكذا. لا بل حتى أن وزارة الأوقاف أيضا قد قُسِّمت وفقا” للمذاهب، فأصبح هناك ديوان خاص للوقف الشيعي، ومثله للوقف السُني، لا بل وحتى للوقف المسيحي. وشيئا فشيئا تم تقسيم المجتمع، في الوقت الذي يصرخ هؤلاء الحمقى الطارئين على السياسة والسلطة، أن هناك مؤامرة غربية لتقسيم العراق. والحقيقة أن الغرب كله لا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة مسلمين إنتهازيين لتقسيم الإسلام بحد ذاته. كل هذا جرى دون أن تكلف هذه الأحزاب الدينية البائسة نفسها لتوفير لقمة عيش كريمة لملايين العاطلين عن العمل، ولملايين الأرامل واليتامى، لا بل أن عراقي غيور تكفل برعاية عدد من الأيتام، في حين عجزت هذه الأحزاب عن فتح ميتم صغير لرعاية بعض منهم. والأخطر من ذلك كله، إنها أنشأت ميليشيات مسلحة بأسماء دينية مثل (حزب الله، وأنصار الله، وأهل الحق) وغيرهم الكثير، فأضعفوا الجيش، وفرضوا على المواطنين أحكام الدين ونواهيه، نيابة عن الله.
وطيلة هذه السنين الستة عشر، أضاع الحكم الديني في العراق حقوق الشعب، على أمل أن يحقق حقوق الله، ولم يَدُر بخلد أي شخص من الذين تسلطوا على الشعب، بأن ليس من واجب الحكومة أن تقود الشعب لتدخله إلى الجنة، بل واجبها أن تُعّيش شعبها برفاهية وإستقرار وحياة حرة كريمة، وتصرفاتهم هذه هي أصلا مناقضة حتى للإسلام نفسه وفقا للآية التي تقول: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. لا بل والأكثر من ذلك، فقد ذهبت العديد من هذه الأحزاب إلى إستحضار صراع إسلامي قديم جداً مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا لتذكية الصراع بين طوائف المجتمع، فقسموا المجتمع إلى معسكرين هما معسكر علي ومعسكر معاوية، أو معسكر الحسين ومعسكر يزيد، كما طاب لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي أن يصّرح بذلك في أكثر من مناسبة.
وبعد 16 سنة من حكم الأحزاب الدينية، وفي مقدمتها الشيعية منها، فقد حان الوقت لنهاية الحكم الديني الشيعي، وهو مشروع ابتكره أحد العاملين في المخابرات الأمريكية عام 1999 ويدعى غراهام فوللر، بالتعاون مع أمريكية من أصل عراقي شيعي، هي رند فرانكي- رحيم، والأسم الثاني هو لزوجها الأمريكي، وما زالت مقيمة في أميركا. والحقيقة لم يكتب فوللر ورحيم هذا الكتاب إلا بعد صدور قانون تحرير العراق عام 1998، وهذا الكتاب كان بداية المشروع المذكور.
لقد اثبت ترامب للشعب الأمريكي وللعالم، خلال سنتين من حكمه، إن الرئيس غير المتدين أفضل من دعاة الدين الذين أول ما يفعلوه هو تقسيم الشعب إلى فئتين هما المؤمنين والكفار، وبالتالي يمنحون المناصب والوظائف (للمؤمنين). وكما قال المسيح لرجال الدين اليهود: قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ،” ويقصد اللصوص والزانيات يسبقون رجال الدين إلى الجنة الموعودة. فإكتسب ترامب بذلك شعبية كبيرة في أمريكا لصراحته وسعيه لتحقيق كل ما وعَد به وكل ما هو أفضل لشعبه. وهذا الأمر يسري على رجال الدين من جميع الأديان والمذاهب.
إن هذا الكلام ليس دعوة للإلحاد بقدر ما هو دعوة لفهم صحيح للدين، وإبعاده عن دائرة السياسة والسلطة، لإدارة أفضل للدولة والمجتمع. فمتى يَعي العرب ذلك؟
الدكتور رياض السندي
15/1/2019

هذه المقالة كُتبت في التصنيف المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.