شيعة العراق بين الإحتلالين البريطاني والأمريكي 1914-2017 / (ج2)

بقلم د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
شيعة العراق بين الإحتلالين البريطاني والأمريكي
1914-2017
(ج2)

02 / 02 / 2018
http://nala4u.com

– أسباب إستبعاد بريطانيا لشيعة العراق
ولغرض أكتمال الصورة وشمول الفكرة لدى القارىء فإننا نعرض أسباب إختيار سلطات الاحتلال لبريطاني في العراق للسُنّة وتفضيلهم على الشيعة في حكم العراق، وذلك من خلال البحث والتدقيق في رسائل المس بيل ذاتها التي كانت الشخصية الرئيسية الفعالة في نقل الصورة لحكومتها في بريطانيا، وتأثيرها الكبير عليها من خلال ما تتوصل اليه من إستنتاجات وما تتضمن رسائلها وتقاريرها من إقتراحات حول شكل الحكومة المؤقتة المزمع إقامتها في العراق كأول حكومة منذ نهاية العصر العباسي وسقوط بغداد عاصمة الخلافة العربية على أيدي المغول عام 1258م قبل ما يقارب سبعة قرون، وتحديداً 668 سنة. وقد زاد عبد الرحمن الكيلاني صورة الشيعة قتامةً لدى البريطانيين عندما تحدث إلى المس بيل قائلاً: “خاتون، أن أمتكم أمة عظيمة وثرية قوية، فأين قوتنا نحن؟ وإنني إذ أقول مثل هذا القول أريد أن يدوم حكم الانكليز، فإذا أمتنع الإنكليز عن حكمنا فيكف أجبرهم على ذلك؟ … وإنني أعترف بانتصاركم، وأنتم الحكام وأنا المحكوم…. “. ثم تطرق إلى الشيعة فأخذ يذمهم ذماً قبيحاً إذ قال: “إن أبرز صفة تميِّزهم هي الخفة، فهم أنفسهم قتلوا الحسين الذين يعبدونه الآن كما يعبدون الله. فالتقلب والوثنية تجتمعان فيهم فإياك أن تعتمدي عليهم”.
ومن جملة هذه الأسباب: –
1. عدم وجود طبقة مثقفة من الشيعة آنذاك:
ففي رسالتها المؤرخة 12 شباط 1920 تقول المس بيل “إن الشيء المهم هو كيفية حماية سكان الريف وأبناء القبائل من البغداديين الذين لا يعرفون شيئاً عنهم ولا يعبأون لهم. لأن الموظفين العرب كما تلاحظونهم، ويجب أن يكونوا دوماً من البغداديين السنة، بسبب عدم وجود طبقة مثقفة أخرى في البلاد. والعشائر (ومعظمها من الشيعة على ما تذكرون) تكرههم”. وعلينا أن نتذكر أن التعليم في العراق ” بدأ بالتراخي النسبي بعد قيام النظام الجمهوري عام 1958 حين منح الزعيم عبد الكريم قاسم كل طلبة العراق عاما دراسيا كاملا دون امتحانات أطلق عليه «الزحف». وقد إعترض على هذا القرار عبد السلام عارف بسبب أنه سيؤدي إلى تدهور التعليم في العراق، إلاّ أن عبد الكريم أسكته بالقول: وما هي شهادتك أنت؟ مشيراً إلى شهادته.
2. عدم وجود طريقة للاتصال بالشيعة:
ففي رسالتها المؤرخة 14 آذار 1920، كتبت بيل تقول “… من الصعب أن تجد هنا طريقة للاتصال بالشيعة، ولا أقصد بهذا العشائر من سكان البلاد لأننا على وئام تام معهم جميعاً، وإنما أقصد سكان المدن المقدسة الورعين العابسين، ولا سيّما رؤساء الدين “المجتهدين” الذين في مقدورهم أن يحلوا ويعقدوا بكلمة واحدة، نظراً لما يتمتعوا به من سلطة تستند الى اطلاعهم التام على العلم المتكدس الذي لا علاقة له بشؤون الانسان، ولا قيمة له في أي فرع من فروع الحياة البشرية. إنهم يجلسون هناك في جو يزخر بمعالم القِدم، ويكتسي بكساء سميك من غبار الأجيال بحيث لا تستبين عيناك شيئاً من خلاله -ولا يمكن لأعينهم أن تفعل ذلك أيضاً. وهم على الأغلب شديدو العداء لنا، إنه شعور لا يمكن تغييره لأنه من الصعب علينا الإتصال بهم”.
3. إنقياد الشيعة لفتوى المجتهد:
في رسالتها المؤرخة 3 تشرين الأول 1920، تقول “قد تكون مشكلة الشيعة أخطر المشاكل وأشدها إزعاجاً في هذه البلاد. فقال عبد المجيد (الشاوي) (وماذا ستفعلون إذا ما أصدر المجتهد الأكبر، وصوته صوت الله، فتوى يحرم فيها على الشيعة الجلوس في المجلس التشريعي؟) … إن العلاج الناجح لذلك هو نفس العلاج الذي توصلت اليه إيطاليا بمرور الزمن. إذ ينتهي البابا والمجتهد بإعتبارهما هَرِمين سخيفين. لكن لم تصل بعد الى تلك المرحلة هنا.” وحول هذه النقطة تدور المس بيل ثانية فتقول في موضع آخر من ذات الرسالة: “إذا كنت ستشكل أي شيء من قبيل المؤسسات النيابية الحقيقية، فإنك ستحصل على أكثرية شيعية فيها … على إن السلطة يجب أن تكون بأيدي السنة، برغم أقليتهم العددية، وإلا ستكون عندك دولة يسيرها المجتهد، وهو أمر خبيث جداً.”
وبالفعل، “وفي خطوة ثورية جديدة، أصدر الإمام الشيرازي في رجب 1338ه /آذار 1920م فتوى حرّم فيها الدخول في وظائف الدولة، فعمّت موجة الإستقالات من الوظائف الحكومية إمتثالاً لموقف المرجعية، وأصبح البقاء في أجهزة الدولة نوعاً من الإنخراط في الكفر”.
4. معظم قادة الشيعة إيرانيون ولا يبالون بالمصلحة العامة:
في رسالة مؤرخة 1 تشرين الثاني 1920 كتبت المس بيل تقول: “يحسن بالنقيب، كما قال ساسون بحق، أن يضم أحد رجال كربلاء والنجف البارزين الى عضوية مجلس الوزراء لكن إحدى الصعوبات هي إن جميع رجال الشيعة البارزين في المدن، أو كلهم تقريباً، هم من رعايا إيران ويجب أن يحملوا على التجنس بالجنسية العراقية قبل أن يتمكنوا من إشغال الوظائف العامة الرسمية في الدولة”.
وفي رسالتها بتاريخ 2 تشرين الثاني 1920 تقول بيل “فالشيعة يشكون من إنهم غير ممثلين تمثيلاً كافياً في المجلس (التأسيسي) وهم بهذا يتغاضون بالكليّة عن إن قادتهم كلهم تقريباً رعايا إيرانيون، وعليهم أن يغيروا جنسيتهم قبل أن يتبوأوا المناصب في الدولة العراقية. إنهم أصعب العناصر إنقياداً في البلاد، وهم كلهم متذمرون مستاءون تقريباً، ولا يبالون بالمصلحة العامة بالمرة.”
وفي رسالة ثالثة بتاريخ 7 تشرين الثاني 1920، كتبت تقول: “والشيعة، كما بيّنت في مناسبات عديدة من قبل، يكوّنون مشكلة من أعظم المشاكل … إن رجالهم المتقدمين في المجتمع من العلماء وأسرهم كلهم من رعايا إيران. وقد وجدت إن أحسن حجّة أتذرع بها، عندما يأتي إليّ بعض الناس شاكين من إن فلاناً أو فلاناً لم يدخل إسمه في قائمة الوزراء، هي أن أسألهم قائلة “أفندم. هل يمكنني أن أسأل عما إذا كان الموما إليه من رعايا الدولة العراقية أم لا”، فيكون الجواب “أفندم، كلا إنه من رعايا إيران” وعند ذاك أذكر لهم إنه في هذه الحالة لا يمكنه أن يشغل منصباً في الحكومة العراقية”.
والحقيقة، أن السبب الذي دفع شيعة العراق إلى التجنس بالجنسية الإيرانية هو للتخلص من الخدمة العسكرية للدولة العثمانية التي كانت تجند العراقيين من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18-45 سنة وتسوقهم إلى جبهات القتال المختلفة. لذا فإن ذلك التجنس يجعلهم في نظر الدولة أجانب يتعذر عليها تجنيدهم.
5. إنزعاجها من المراجع الشيعية:
كتبت بيل في رسالتها المؤرخة 3 تشرين الأول 1920، تقول: “إن المجتهد الأكبر الحالي يسير مترنحاً الى قبره -كان من المؤسف جداً أن يحول دون وقوعه قبل سنة، حينما أنقذه ضابطنا الطبيب في النجف- وقد أتى بعده مجتهد أكثر تفتحاً وتنوراً منه، فهناك أناس من هذا القبيل حتى بين المجتهدين.”
ثم تذكر بإسهاب إنزعاج الإدارة البريطانية من المرجع الشيعي محمد الصدر فتقول في رسالتها المؤرخة 20 تموز 1921 “إن معكر صفو السلم هو السيد محمد الصدر، وهو عالم طويل القامة، أسود اللحية، ذو تقاسيم شريرة، قفز الى الظهور البغيض بصفته رئيس المحركين خلال الإضطرابات”.
أما عن الشيخ مهدي الخالصي فقد كتبت عنه في عدد من رسائلها ووصفته بأشنع الصفات. ففي رسالتها المؤرخة 22 حزيران 1922كتبت ما يلي: “وقد عطلت وزارة الداخلية إحدى الجرائد -أحسب أنهم كلهم يتقاضون أموالاً من ذلك الغول الهرم الشرير الشيخ مهدي الخالصي (!)، أحد المعممين الذين أريد أن أضعهم في قارورة وأسدها سداً محكماً عليهم”. وفي رسالتها بتاريخ 6 تموز 1922 قالت عنه: “وفي صباح الإثنين ذهبت الجماعة المناوئة للأنتداب كلها الى الكاظمين لإستشارة كاهنهم، الشيخ مهدي الخالصي، فقال لهم أنه لما كان الملك قد أخل بتعهده حينما أنتخب لتسنم العرش، في أن يحافظ على إستقلال العراق، فإن بيعتهم له أصبحت لاغية. ثم إلتفت الى الحكومة العراقية وقال إنها قبل أن تتشكل كان الأنكليز هم الذين يحكمون البلاد، وما زالوا يحكمونها مع زمرة من المبذرين أضيفت إليهم”. وفي رسالة أخرى بتاريخ 16 آب 1922 كتبت تقول: “في اللحظة التي يأتي فيها الأتراك لمحاربتنا وبذل قصارى جهدهم للقضاء على المملكة العراقية أصدر أعنف مجتهدي الشيعة (الشيخ مهدي الخالصي) المعادين للبريطانيين فتوى يناشدون فيها المسلمين بالتبرع للهلال الأحمر -أي صندوق الحرب التركي، كان صدر نوري باشا يغلي يوم أمس بالسخط والنقمة لأنه هو وأمثاله، على ما يقول، لا يستطيعون الإعتراض علنا على ذلك بإسم الإسلام”. وفي رسالة لاحقة بتاريخ 31 آب 1922 كتبت تقول: “على إن أعظم ظفر حققه السر بيرسي كان ما إتخذه من تدابير ضد العَالِمين الخطرين في الكاظمية السيد محمد الصدر والشيخ محمد إبن الشيخ مهدي الخالصي. فقد بعث يقول لهما إنه حريص جداً وبصورة دائمة في المحافظة على شرف رجال الدين ولأجل تخليصه من الواجب المؤلم في نفيهما بالقوة، فإنه يشير عليهما بالرحيل الى إيران (لأنهما من رعايا إيران). فغادرا البلاد في ليلة التاسع والعشرين من الشهر”.
وقد كتبت عن مرجع شيعي أخر في رسالة مؤرخة 21تشرين الأول 1923 تقول: “تشكلت وزارة جديدة برئاسة جعفر باشا. وقد بقي نوري السعيد في وزارة الدفاع، لكني أتمنى أن ينتخب عبد المحسن السعدون بك رئيساً للمجلس التأسيسي. تدخلت لأثنيهم عن إستيزار شيعي خبيث كنت على عِلم بأعماله وحركاته منذ 1918 فلم أجدها حسنة”. وقد أشار المترجم في هامش الصفحة الى أنها (لعلها تقصد الشيخ عبد الكريم الجزائري، أو سماحة السيد محمد علي بحر العلوم وكان من أقطاب جمعية النهضة الإسلامية السرية في النجف التي كانت سبباً في نشوب ثورة النجف في 1918).
وفي إحدى رسائلها تتمنى أن يصبح قسم من الشيعة عرباً فتقول: “هذا هو موقف الشيعة، وليس بوسع أحد من غير أبناء البلاد أن يهديهم الى الطريق بصورة تدريجية. إني آمل في الأخير أن يُصبح قسم منهم عرباً بالتمام ليسهموا في تمشية شؤون الدولة”.
6. تفضيل الشيعة للدين والمذهب على الحكومة والدولة:
الشيعة في كل مكان غالباً ما يفضلون الدفاع عن مذهبهم ودينهم بدلاً عن الدفاع على الدولة. وبعد قيام الحرب العالمية الأولى 1914، وبمجرد أن وطىء البريطانيون أرض العراق ونزلوا في البصرة في 9 تشرين الثاني 1914، حتى سارع معظم علماء الشيعة ومجتهديهم الى إصدار عشرات فتاوى الجهاد ضد البريطانيين الكفار ولنصرة الدولة العثمانية المسلمة وبدفع وتأثير من الاتراك. وفي رسالة مؤرخة 5 تشرين الثاني 1920، كتبت المس بيل تقول: “نحن بأمس الحاجة الى العراقيين الذين خدموا مع فيصل في سورية -إنهم رجال متشبعون بروحية القومية العربية. وإذا ما تعذر كسبهم الى جانبنا أو إتخاذهم حلفاء لنا، فإننا على ما أعتقد سنتعثر ما بين الثيوقراطية الشيعية والبيروقراطية الميالة الى الأتراك”.
وبالفعل، ففي الوقت الذي قرر فيه السُنة التخلي عن الخلافة العثمانية المسلمة والسُنية، ظلّ الشيعة متمسكين بها، وأعلن غالبية علمائهم فتوى الجهاد لمساعدة القوات التركية العثمانية المسلمة رغم إضطهادها لهم، وإختلافهم معهم من الناحية المذهبية، وفضلوا الحاكم المسلم الظالم على الحاكم الكافر العادل.
ويبدو إن فيصل بن الحسين كان مدركاً لتوجهات الشيعة في العراق، وقدّم لهم نصيحة ذهبية موجزة أثناء الحفلة التي أقامتها مدرست شرافت إيرانيان ببغداد يوم الخميس 4 آب 1921 لاستقباله بمناسبة قدومه البلاد وإعلانه ملكاً عليها وقبل تتويجه ب (19) يوماً. وكانت منظّم الحفلة السيد محمد الصدر. وتصف المس بيل تفاصيل الحفلة في رسالتها المؤرخة 8 أب 1921 بقولها: “فقد صادف إن أقيمت حفلة إستقبال في المدرسة الإيرانية، حيث ذهبت كالمعتاد وكان من الضروري أن أذهب الى هناك لان السيد محمد الصدر هو المنظم للحفلة، وكنت أخشى أن تقال فيها أشياء غير مناسبة قد يحول وجودي دون التفوه بها. وقد جاء محمد الصدر قبيل وصول الأمير بقليل، فنهض الجميع عند دخوله – لكني بقيت جالسة بإتزان وحييته بالتحية التي أحيي بها أي إنسان بعد أن يكون قد جلس في موقعه. وأجلِس الى يسار عرش الأمير، بينما كنت أنا أجلس الى اليمين. غير إني نهضت بخفّة ونشاط حينما دخل فيصل. وكانت جميع الخطب والأشعار على ما يرام، إلاّ في الأخير حينما نهض شاب بليد وقرأ قصيدة يدور فحواها حول عرش بيروت وجبل لبنان وما يرغب فيه جميع العرب … وقد قال (فيصل) قبيل أن ينصرف “إن إجتماعنا هذا يعتبر إجتماعاً خصوصياً، وليست لما يقال فيه أية أهمية سياسية، لكني تأسفت لسماع قصيدة رشيد”، فتضاءل رشيد في مكانه. ومضى يقول “لو كنت أعرف إنه ينوي إلقاءها لمنعته. أرجوكم أن تحصروا أفكاركم جميعاً في قضية تأسيس دولة عربية في العراق، وأن لا تفكروا بأي شيء آخر” فكان لكلماته وقع الكهرباء، إن جميع المدينة تتحدث عنها الآن”.
7. إحتماء المقاتلين الشيعة بالأماكن المقدسة:
في حالات مواجهة القوة القاهرة يلجأ المقاتلون الى الأماكن المقدسة للإحتماء بها ودرء الخطر عنهم إعتقاداً منهم بإن قدسية تلك الأماكن ستمنع العدو من إستهدافهم ومحاربتهم. وقد التجأ (الثوار-المتطرفون) الشيعة بعد محاربتهم للبريطانيين الى الإحتماء بمسجد الكوفة في 8 ذي القعدة 1338، فقصفتهم الطائرات البريطانية وقتلت عدد من الأشخاص. فأصدر المقاتلون الشيعة بلاغاً في اليوم التالي وأرسلوه الى سفارات الدول في بغداد وإيران وتركيا، جاء فيه: الى العالم المتمدن-جناية الإنكليز على المعابد-القاء القذائف النارية على مسجد الكوفة-قتل النساك والمتعبدين … فقد حلقت طياراتها صبيحة أمس 8 ذي القعدة 38 وألقت قذائفها النارية على مسجد الكوفة فقتلت جملة من الأبرياء وجرحت أكثر من عشرين ناسكاً في محاريبهم وقد سقطت إحدى القذائف على امرأتين فتمزقت أعضاؤهما وتمزقت أوصالهما وفتكت بثلاثة أطفال وأخربت المقام المشهور”.
وقد كتبت المس بيل عن ذلك، في رسالتها المؤرخة 28 آذار 1918 تقول: “هناك عصابة صغيرة من الأوغاد اللعناء في النجف، كانت تحصل لنا على الدوام مشاكل معهم. والرأي العام جميعه ضدهم لكنهم يحتمون وراء قدسية مدينتهم، ومن الصعب جداً إنزال العقوبات بهم. إنهم يعرفون هذا جيداً، وتنطوي شجاعتهم على إرتكاب الشّر في قناعتهم بأنهم أمنون تجاه أي هجوم يُشن عليهم لان ذلك ستضمن إنتهاك العتبات المقدسة في النجف”.
وهكذا، “كان الأنكليز يعانون في ثورة النجف من.. قدسية النجف في العالم الإسلامي، مما لا يمكن معه ضرب النجف بأي حال من الأحوال”.
8. إنزعاجهم من طقوس عاشوراء:
إن أهم ممارسة دينية للشيعة هي طقوس العاشر من محرم والمعروفة إختصاراً ب “عاشوراء”. وقد شهد البريطانيون هذه الممارسة الشيعية. ومن بين الذين كتبوا عنها بإسهاب المس بيل في رسائلها المشار اليها. ورسائلها تفيض بإنزعاجها من إستخدام السكاكين، وحمل مشاعل النار، ومن منظر الدماء في هذه الشعائر. ففي رسالتها بتاريخ 4 أيلول 1921 كتبت تقول: “كانت الليلة الماضية أول ليلة من ليالي محرم الحرام. وقد غطّت على فوانيس الليدي كوكس في حدائقها أضواء المشاعل الملتهبة التي كانت تحملها مواكب العزاء في الخارج، وهي تستعرض الشوارع بعويلها ولطم الصدور فيها تأبيناً للإمام الحسين”.
وفي رسالة لاحقة بتاريخ 11 أيلول 1921، كتبت بيل الى عائلتها تقول: “ربما يكون قد فاتكم أن تلاحظوا أننا الآن في منتصف محرم الحرام، وفيه يستمر الشيعة من أوله الى منتصفه على تأبين الحسين، سبط النبي، وكان قد دعاه العراقيون من مكة ليكون خليفة للمسلمين، لكنه لم يحظ بتأييدهم حينما وصل، وقاتله جيش خصمه معاوية في المكان الذي تقع فيه كربلاء اليوم. وهناك قضى نحبه على مشهد من أتباعه من العطش والجروح، وأستشهد مقتولا في اليوم الخامس عشر. ولم ينج غير ولد صغير من أولاده، فتحدر فيصل من نسله (وكذلك النقيب). وأذكر بالمناسبة أن فيصلا حينما قَدِم الى العراق أتذكر على الدوام قصة جده هذا. فالشبه تام بين ظروف الإثنين. وفي دعوته الى العراق، ورحلته من مكة، ووصوله وحيداً إلاّ من أتباعه الرسميين المرافقين له. وإذا كانت الحوادث قد برهنت على إن المصير كان شيئاً مختلفاً فلأني كنت أقول على الدوام “أبعد الله النحس”.
وعادت بيل تكتب ثانية رسائل أخرى لتصف مطولاً مراسيم عاشوراء. ففي رسالتها المؤرخة 17 أيلول 1921(ب) كتبت تقول: “وذهبت لأرى المراسيم في الكاظمية … وكان هؤلاء فدائيي الحسين، وهم على نوعين: نوع اللاطمين على الصدور العارية وتعتبر ألامهم خفيفة نسبياً، ونوع الرجال الذين يطبرون بالقامات. وحينما كان يسمح لأهل القامات في أيام الترك بأن يفعلوا كما يشاؤون قتل عدد منهم أنفسهم … وينزف الضاربون بالقامة نزفاً فضيعاً، فينزل الدم على أوجههم، وقد يربت الضارب بيده على رأسه النازف ثم يمسحها بصدريته البيضاء فيحدث مظهراً من التخضب بالدم. وبعضهم تتشبع ملابسه تشبعاً تاماً بالدم من الخلف، لكني لا يسعني إلاّ أن أعتقد بأن جميع هذا الدم لا بدّ أن يكون دم الغير، أي دم الخراف مثلاً. وقد إندفعوا كلهم الى خارج الجامع وهم يلوحون بقاماتهم وسكاكينهم، لكن سرعان ما أخذها منهم بحذق وبراعة بعد إحتجاج البعض، مفتش الشرطة الذي كان قد شرط رؤوسهم في بداية الأمر، من أجل أن يحول دون مضيهم، في نوبة الحماسة، في إيذاء أنفسهم. إن هذا كله شيء وحشي فوق العادة، يكرهون السُنيّون لإعتقادهم بأنه خزي للإسلام”.

كما وأوضحت المس بيل وبإنفعال شديد موقفها من الشيعة بالذات قائلة: “أما أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب يقعون في مأزق حرج. فإنهم من أصعب الناس مراساً وعناداً في البلاد”.
وقد إختصرت المس بيل رأيها في فيهم قائلة: “ويجب أن أعتبر سيطرة الشيعة كارثة لا يمكن تصورها”. فهل صدقت نبوءتها بعد أكثر من 80 عاماً؟ إن نظرة واحدة إلى عراق اليوم تبين ذلك بجلاء.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.