‏لماذا هُزم الأتراك في الحرب؟

لماذا هُزم الأتراك في الحرب؟
ترجمة حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

02 / 09 / 2016
http://nala4u.com

هذه ترجمة عربية لقصّة كتبها صبري بن إسماعيل السيراوي/السودي الدنفي السامري (ت. في أواخر القرن الماضي عن عمر ناهز التسعين عاما، يبدو أن اسم العائلة السيراوي يعود إلى جدّ العائلة الأوّل الذي عاش في سوريا وكان أمين سرّ الحاكم هناك) بالعبرية، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. – أخبار السامرة، العددان ١٢٠٩١٢١٠، ١٥ آذار ٢٠١٦، ص. ١٩٢٢.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها. إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط، أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩ وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة ترزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم رتسون (راضي) صدقة (١٩٢٢ــ٢٠ ١٩٩٠).

” إسمع يا عزيزي، قبل أن أشرع بسرد سلسلة قصص صباي وشبابي، تعال لأحيطك علمًا ببعض فئات العملة التركية، وإلا فلا يمكنك فهم كيف كنا نعيش في تلك الأيّام، ومدى أهميّة كل قرش، عُدنا به إلى البيت.
لم نر، أنا وأشقّائي وأهل بيتي وطائفتي، في خلال تسعين سني حياتي، أيّامًا أصعب من أيّام الحرب العالمية الأولى، التي دارت رحاها بين الأتراك والألمان من جهة، وبين الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين من جهة أخرى.
تلك كانت أيّام صباي. كانت المعيشة صعبة جدًّا، وحول كل قِدْر من الطعام جلس بضعة فتيان، وفي أيديهم بعض الكِسر من الخبز، يغرفون بها ما تيّسر من أرز وقطيعات لحم قليلة في القدر، عندما كان اللحم متوفّرًا، ويأكلون. لذلك قدّرنا كل قرش، صدّقني.

قلت، فئات العملة، ولنبدأ بأكبر وأغلى فئة من العملة وأحبّها على القلب والجيب، الليرة الذهبية العثمانية/العصملية. إن وقعت هذه الليرة في يدك، فإنّك ستعيش أنت وأهل بيتك مدّة شهر كامل، بدون أيّ قلق أو همّ معيشي. ولكنّنا لم نستهتر بفئات عملة أخرى، بدءً بالمتليك الذي قيمته ثلث القرش، يعني كل ثلاثة متاليك ساوت قرشا. بقرش واحد كنت تستطيع شراء ثلاثة كيلوغرامات من البندورة وثلاثة كيلوغرامات من الباذنجان أيضًا، كلّ هذا لتعلم كم كانت قيمة البشليك/البشالك عالية. فئة المجيدي، التي كانت تساوي خمسة وعشرين قرشًا، كانت نادرة الوجود في الجيبة. مجيدتان ساوتا نصف ليرة، وعليه فأربع مجيدات ساوت ليرة تركية. لمن منّا نحن الشباب، كان في جيبه ليرة تركية واحدة؟ ما كان الإنسان ليعوّل على الليرة الورقية إذ أنّها تآكلت من جرّاء التضخّم المالي.

حسنًا، ما أقول، وما أحكي لك؟ زمرة مرحة، كنّا نحن فتيان الطائفة السامرية الصغيرة في نابلس. الحرب العالمية الأولى كانت قاسية، سقطت ضحايا كثيرة منّا نحن السامريين في الحرب، وكذلك جوعًا ومرضا. توفي الكاهن الأكبر، يعقوب بن أهرون في عزّ الحرب وحلّ محلّه الكاهن إسحق بن عمران. ولم يدر أحدّ منا ماذا سيأتي به اليوم التالي. عشنا يومًا فيومًا على رحمة جيراننا وسخرية الجنود الأتراك، الذين بدأوا في تجنيد خيرة شباينا.

تصوّر أنّ أربعة وعشرين من طائفة هرمة روحيًا، كان عدد أفرادها أقلّ من ١٥٠ نسمة [هكذا في الأصل والجملة مبتورة]. وهذا ما كسر شوكة جلَد الكاهن الأكبر، يعقوب بن أهرون، الذي كان والد أمّي بديعة، رحم الله هذه الأرواح الزكية. كان شغلنا الشاغل في تلك الأيّام، محاولة الاختفاء عن أعين الجنود الأتراك، الذين بدأوا في تجنيد فتيان أيضًا للحرب. كان معي أصدقائي، مثل تميم بن إفرايم الدنفي من آل مفرج، شقيقي الأكبر عزّي ويعقوب بن عزّي الكاهن.

جدّي الكاهن يعقوب، رحمه الله، وضعه تحت كنفه بعد موت ابنه، ربّاه، أطعمه، سقاه ولبّى حاجيّاته. بموجب القانون العثماني كان الكهنة وأبناؤهم معفيين من الخدمة العسكرية، وهكذا، وبينما كنّا نحاول مرغَمين، البحث عن مخابىء للهرب من التجنيد الإجباري، كان صديقي، الكاهن يعقوب بن عزي، يقضي وقته في قراءة إضبارات وصحف عبرية أحضرها له الكاهن يعقوب بن أهرون بعد رجوعه من رحلاته للقدس، أو السيّد جون وايطنج الذي كان يساعد في إدارة مدرسة أبناء السامريين، التي أقيمت بفضل كرم وورن من أمريكا. توقّفت هذه المدرسة عن التعليم عند نشوب الحرب الكونية الأولى، وأُقفلت نهائيًا أيّام جدّي يعقوب، الذي كان أكثر مؤسّسيها نشاطا.

لنعد إلى موضوعنا! نجح الإنجليز جدًّا في حربهم ضد الأتراك، واحتلّوا الجبهة تلو الأخرى، وهكذا أخذت منطقة نفوذ الأتراك بالتقلّص. كما وأخذ عدد خسائرهم بالازدياد يومًا بعد يوم، ولذلك أخذوا بتجنيد الفتيان. بدأ التجنيد الإجباري، بعد أن نفِد المال الذي دفع رشوة لتأجيل التجنيد. لقد حسد أبناء الكهنة المعفيين من التجنيد.

ذات يوم، سمعت طرقات قويّة على بوّابة منزلنا، كنّا أنا وشقيقي الأكبر عزّي منهمكين باللعب. تصرّفنا كما كنّا نعلم دائمًا في مثل هذه الأحوال. أسرعنا واختبأنا في بيت المي (المرحاض). خرجت والدتي بديعة نحو القادمين. والدي إسماعيل توفي عندما كنت غضّا.

الكاهن توفيق بن خضر رحمه الله، يرافقه ضابط تركي وجنديان، سأل عنّي وعن شقيقي. تظاهرت أمّي بأنّها لا تعلم أين نحن. لم يصدّق الضابط التركي قولها، وأمر الجنديين بتفتيش البيت. ها، لم يضطّرا للبحث عنّا كثيرًا فبيتنا كلّه كان عبارة عن غرفة واحدة ومنافع. وَجَدانا في المرحاض. عبس الضابط في وجه والدتي، وخرج في أعقاب جندييه اللذين جرّانا إلى الخارج. شقيقنا الصغير، إسماعيل/حكمت كان طفلًا أو ربّما ولدًا صغيرًا آونتها. ּأخذونا إلى ساحة السجن التركي، وهناك وجدنا بضع عشرات من فتيان بجيلنا واقفين مهتاجين، مرعوبين. لم تمرّ لحظة إلا ودُعينا كلّنا إلى الضابط، متجهّم الوجه.

وُضع على كتف كلّ منّا كيس من الزبيب، وزنه اثنا عشر كيلو غرامًا، طعامًا للجنود الأتراك في الجبهة. كانت الطرق غير سالكة، ووقود السيارات قد نفِد، وحتّى البهائم في السوق قد أضربت. كانت الجبهة قريبة جدّا. توجّه الإنجليز وحاصروا مركز السامرة. كانوا قد وصلوا جنوبًا إلى وادي اللبن، وهكذا كانت الجبهة بجانب قرية يتما، التي يمكن الوصول إليها عن طريق بلدة حوّارة.

هكذا بدأنا طريقنا وصحِبَنا جنود يمسكون بالسياط ليستحثونا. ما كان للأتراك ما يأكلونه سوى حفنة من زبيب صغير جدًّا تضعها في الفم. هذا يعني أنّ الجيش التركي، كان على وشك الموت جوعًا، ولولا غيظ الضبّاط الأتراك على الجنود لانضمّوا إلى الإنجليز.

مشينا في قافلة طويلة على امتداد سفوح جبل جريزيم الشرقية، إلى بلدة حوّارة. الاثنا عشر كيلوغرامًا من الزبيب، التي حمّلونا إياها على ظهورنا، سرعان ما أصبحت وكأنّها أربعة وعشرين كيلوغرامًا، هكذا أحسسنا، وفي كلّ ّّخطوة، كان حملُنا يُثقل كاهلنا أكثر فأكثر. وعلى حين غرّة، تعثّر شقيقي عزّي وخارت قواه، ولم يستطع الاستمرار في حمل كيس الزبيب. أمامَنا كان يسير فتى قروي، فلاح عريض الكتفين، طويل وقوي القامة. وعدته أن أدفع له مبلغًا من المال، فيما إذا وافق على حمل كيس شقيقي، وسأضاعف الأجرة إذا حمل كيسي أيضا. وافق الفتى شرط أن أدفع له خمسة بشالك.

عندها جلَد الجندي التركي بسوطه ظهرَ ذلك القروي، وأراد أن يعرف سبب التلكؤ. أجبتُ الجندي وصوتي حزين جدًا، مُشبع بالدموع، أن شقيقي لا يقوى على متابعة حَمْل الكيس، وهذا الفتى الفلاح غير مستعد لمساعدتنا، إلا إذا دفعنا له خمسة بشالك. ما كذبت في حياتي قطّ.

كم في يديك؟ سأل الجندي التركي.
بيشلك ونصف لا غير، قلت له وكلّ جسمي يرتجف.
ضع في يدي، وأنا أتدبّر الأمر، قال الجندي.
أخرجت البيشلك والنصف من جيبي وأعطيتهما له، فأسرع ودسّهما في جيبه.
فجأة التفت وجلد الفتى الفلاحَ، آمرًا إيّاه أن يحمل كيسي وكيس شقيقي. فما كان من القروي المروَّع، إلا أن قام بما أُمر به وتابعنا سيرنا.

استجابت السماء لدعائنا، بدأ المطر يهطل بغزارة، مصحوبًا بالبرق والرعد. تدثّر الجنود الأتراك بمعاطفهم واثنانا، شقيقي وأنا، اغتنمنا هذا الهرج والمرج للتملّص من القافلة. اختبأنا خلف إحدى الصخور بجانب الطريق، وبعد أن عبرت القافلة وتابعت مسيرها، سلكنا طريقنا عائدين إلى نابلس. وبالقرب من كفر قليل، أوقَفنا عجوز عربي اسمه موسى شبانة وسألنا عن وجهتنا. شرحنا له الوضع.

أَجُننتما؟ قال، هناك قافلة أخرى، فيها عشرات الفتيان سائرة في الطريق نحوكما، وإن عثروا عليكما فسيُلحقوكما بها، ما عليكما إلا النزول من هذه الطريق والعودة إلى بيتكما عن طريق جبل جريزيم. كان علينا أن نفعل ما قاله الفلاح طيّب القلب. استمرّ المطر في الهطول بلا انقطاع.

تسلّقنا وصعدنا من الطريق نحو صخور السفح الشرقي لجبل جريزيم، تحت ضريح الشيخ غنام. بوسعك أن تتصوّر صعوبة التسلّق في أرض موحلة وزلقة، والصخور رطبة ملساء. الخوف من الأتراك والحنين إلى البيت، كانا أقوى من المعاناة التي تحمّلناها. بكينا عند تسلّقنا صعدًا على الجبل، ناهيك عن فزعنا من ضبع أو خنزير برّي أو أيّ حيوان آخر، كانت تعيش في السفح الغربي للجبل. وصلنا قمّة الجبل بجانب الشيخ غنّام، جريحَين، ننزف دمًا. من هناك صارت الطريق أسهل، مع أنّها كانت زلقة كما كانت من قبل.

هبط الليل علينا، سرنا وقتًا طويلًا، كان الواحد يساعد الآخر لقطع المسافة، إلى أن خارت قوانا فاسترحنا قليلا. مررنا أمام مكان القربان، ومن هناك إلى الجدران الحجرية (السناسل) التابعة للثري العربي شيشي، ومن هناك نزلنا رويدًا رويدا، لم يكن آنذاك شارع، حتى رأس العين، كنا نغطس بين الفينة والأخرى في بِرك الماء والوحل، امتزجت دموعنا بقطرات المطر التي غسلت رأسينا، وجهينا، وكل جسمينا.

عند منتصف الليل تقريبًا، طرقنا برفق على بوّابة بيتنا. أمّنا بديعة ومسنّو أسرتنا خرجوا فورًا نحونا، وفي أياديهم قناديل الكاز. كاد الهمّ والغمّ يقضيان عليهم. الكاهن توفيق وهم كانوا قد خرجوا للبحث عنّا في مخيّم الفتيان ولم يجدونا، استولى عليهم القلق، فربّما سقطنا بنيران الإنجليز. قصصنا عليهم بصوتين مرتجفين كلّ ما مرّ علينا.

الله يخربهم، صاحت أمّي، يا ليت الله يهزمهم في الحرب، ولا يشوفو يوم مليح في حياتهم، الله يخلّص عليهم، أردفت أمّي بصوت عال. كان واضحًا للجميع أنّها قصدت الأتراك.
والآن هل تعلم، لماذا دُحر الأتراك في الحرب؟“

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات, كتب , تاريخ. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.