مُحاورَة قِصَصِيَّة

بقلم شذى توما مرقوس
مُحاورَة قِصَصِيَّة

29 / 07 / 2016
http://nala4u.com

……… مِنْ مَحْضِ الصُدَفِ الجيّدَةِ المُثْمِرَة أَنْ قَرأَ القَاصّ مرشد كرمو قِصَّتي القَصِيرَة ( دَعْوَى كيْدِيَّة ) في أَحَدِ المَواقِع ، فتَحاورْنا حوْلَها وأَبْدَى مُلاحظَاتَهُ بِشَأْنِها ، وأَفْصَحَ عَنْ رَغْبَتِهِ في مُحاولَةِ كِتَابَتِها بِغْيَة المُقَارنَة بَيْنَ الأُسْلُوبين وإِنَّهُ يَعْتَبِرُ هذا تَحدٍ لَهُ ، ورَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ حسَناً …..                                       
أَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي حَرَّكَ هذا التَحَدِّي في دواخِلِ أَخي القَاصّ مرشد هو أَجْواءُ القِصَّة القَرِيبَة إِلى عوالِمِ عَمَلِهِ الوظِيفِيّ كمُحامٍ وقَاضٍ لِلتَحْقِيق  ، إِنَّها تَبْدأُ بِدَعْوى في المَحاكِم انْطِلاقاً مِنْ العُنْوان ، وتَأْخُذُ مِنْ الطَرِيقِ إِلى مَخْفَرِ الشُرْطَة ، ومِنْ ثُمّ مَخْفَر الشُرْطَة قَصْداً إِلَيْهِ ، إِضَافَةً إِلى أَنَّ بَيَانَ القِصَّة هو الدَعْوَى الكيْدِيَّة الَّتِي أَقَامَها ( فُلان ) على الشَخْصِيَّةِ المِحْورِيَّةِ فيها .                                       
أَشْكُرُ لَهُ الوَقْتَ والجُهْد المَبْذُولين في كِتَابَتِها ، أَشْكُرُ لَهُ مُتَابَعتَهُ واهْتِمامَهُ ، وأَنا أُعْطي لِقِصَّتِهِ صِفَة مُحاورَة قِصَصِيَّة لِقِصَّتي كوْنها ــ أَي الأَخيَرة ــ الحافِز لِكِتَابَتِهِ ( دَعْوَى قَضَائِيَّة ) ولاسْتِنَادِهِ على الفِكْرَةِ المَأْخُوذَةِ مِنْها انْطِلاقاً ولَيْسَ تَفْصيلاً ، فظَهَرَتْ قِصَّتهُ بِحُلَّةٍ بَهِيَّة وبِمَضْمُونٍ جدِيدٍ وثَرِي وبِاسْتِقْلالِيَّة عالِيَة ، ولَمْ يَعُدْ يَرْبِطُ بَيْنَ القِصَّتَينِ سِوَى المَقَاطِعِ والجُمَلِ المَأْخُوذَةِ عَنْ قِصَّتي ــ دَعْوَى كيْدِيَّة ــ ( والَّتِي سيُلاحِظُها القَارِئ/ة بِالتَأْكيد مِنْ خِلالِ اطِلاعِهِ على القِصَّتينِ ) ، ولا غَرَابَة في ذَلِك والقَاصّ مرشد كرمو هو القَاصّ البَارِع القَادِر على شَدِّ القُرَّاء إِلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الشَيّق وصُوَرِهِ القِصَصِيَّة الحاذِقَة ، تَمَنِّياتي لَهُ بِالمَزِيد مِنْ العطَاء .     
الشُكْر الجَزِيل لِكُلِّ المُتَابِعين والمُتَابِعات .                                               

( 1 )

دعوى قضائية
ــ قصة قصيرة ــ
بقلم : مرشد كرمو
السبت 11 / حزيران / 2016 

كانت وفاء قد أَقامَت الشَكْوَى على زوجها وليد في أحد مَخْافَرِ شُرْطَة ديترويت. بَعثَتْ المَحْكمَةُ إِلَيْها تَسْتَدْعيها لِلمثول والادلاء بشهادتها أمام القاضي في الثالث من كانون الثاني. إنه اليوم الذي  سيقرر فيه القاضي ادانة وليد أو اعلان براءتهِ لضربه وفاء وإلقاء تلفونه اليدوى عليها محدثا جروحا وخدوشا كانت آثارها لازالت بادية على وجهها حتى بعد أكثر من شهرين  من الحادثة. كان حضُورها مُلْزِماً والا ستسقط المحكمة الدعوى ضد وليد. كانت الادلة دامغة ضده وهكذا فالمحكمة الجنائية ستودع وليد السجن لسنوات عديدة.
 نَهَضَتْ صبَاحاً فهذا يوم الانتقام وفرصتها لتستعيد كرامتها التي داس عليها وليد مرارا عديدة بالضرب والاهانات. سترتدي اليوم أجمل ملابسها وستجّمل نفسها بجميع المساحيق لديها. فوليد لا يريدها جميلة ،  أو متعلمة ، أو قوية. وقفت أمام المرآة تتطلع على وجهها المتوتر بعض الشيئ. أرغمت نفسها على الابتسامة إذْ يجب أن تكون سعيدة وفكرت بان اليوم سيكون أول أيام حياتها كوفاء جديدة ، إمرأة قوية مستقلة . فتهلل وجهها بالرضى وأخذت تتفحص وجهها من جديد. كان وجها فاتنا يملك جاذبية وسحر خاص بفضل بشرتها الناعمة وشعرها البني الذي تدلى حول وجهها . تريد ان يراها وليد جميلة وقوية قادرة على اتخاذ القرارات. فهي ليست جبانة ولاضعيفة لاتقوى على شيئ كما كان ينعتها دائما.
هيَّأَتْ طِفْلَها أندي ذات السبع سنوات حيث ستأخذه مَعَها. أما الفتاة الصغيرة ذات الأربعة سنوات فقد تركتها مع جارتها. وحِرْصاً مُضَاعفاً مِنْها دَثَّرَتْ الصبي أندي بِمِعْطَفٍ سَميكٍ. ففي اللَيْلَةِ الماضِيَة تَسَاقَطَت الثَلْوجُ بِغزَارَة وهكذا فالطُرُقَات مَكْسُّوَة بِطَبقَاتِ الثَلْج ومُزْلِقَة . أَمْسَكتْ بِيَدِ طِفْلِها وخَرَجا إِلى شارع الطَرِيق العام نَحْوَ مَحَطَّة انْتِظَارِ الحافِلَة.
كانَتْ تَتَمنَّى لَوْ اسْتَطَاعتْ أَنْ تَعْفي طِفْلَها مِنْ هذَا المِشْوار، لكِنْها لاتريد ان تثقل على جارتها. إلى جانب ذلك انها  وحيدة في مشغان لا أَهْلَ لَها ولا أَصْدِقاء. كما لا يُمْكِنها أَنْ تَتَرُكهُ وَحيداً في المَنْزِل فهو صَغِير السِنِّ . فَكَّرَتْ بأَنَّ سيَّارَةَ أُجْرَة خاصَّة تُقِلُها إِلى المَحكمة هو الحلّ المُنَاسِب ، لكِنَّها لا تَمْلِكُ المَالَ الكافِي لِتَدْفَعَ التَكالِيف. كان وليد بخيلا معها وكريما مع أصدقائهِ وملذاته. كان يحصل على مرتب جيد فهو يعمل في شركة يملكها أحد أصحابه . لكن الدخل الذي يعلن عنه أقل مما يتقاضاه بكثير مما يتيح له التنصل من دفع نفقة ذات أهمية على الولدين وهو مبلغ لا يكفي لدعم العائلة ولذلك فقد اضطرت وفاء أن تقدّم على مساعدات حكومية . انه بداية الشهر ولن تتسلم الصك الحكومي إلا بعد أيام بسبب الأعياد. ولَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُعِيرها المال ، ما مِنْ سَبِيلٍ أَمَامَها غَيْر أَنْ تَنْتَظِرَ الحافِلَة وتَأْمَل أَنْ لا تَنْتَظِرَ طَوِيلاً.
وقفَا يَنْتَظِران . مَرَّتْ بِضْعُ دقَائق ثُمَّ بِضْعٌ دقائق أُخْرَى ، لكِنْ مَوْعِد مَجِيءِ الحافِلَة تأخرَ  بسبب الطقس السيئ. كان الطِفْلُ في وقُوفِهِ يَصِرخ:
ــ ماما …. أَنا أَتَجمَّد
اغْرُورِقَتْ عَيْناها بالدمُوع وقَالَتْ في سِرِّها،
لابأس أن نعاني اليوم يا ابني. لن نره بعد هذا الصباح.
 ستخلصُ منه ومن دائرة العنف الشهرية التي أضحت نمطا لحياتهما في السنوات الأخيرة.  كانت دائرة العنف تبدأ بالإهانات والاحتقار ثم الضرب وبعد بضعة أيام يعتذر منها وليد ويقدم لها هدية فيتصالحان وسرعان ما تعود علاقتهما طبيعية لاتشوبها أية شائبة تليها عودة العلاقة الجنسية التي انقطعت بينهما أثناء حربهما الباردة  . لكن الرحيق والغرام سرعان ما يزول بعد بضعة أيام فيسمعها وليد كلمات خشنة تليها إهانات وهكذا. كان شعورها بالانتقام يمدها بالقوة والعزيمة كي تتحمل برودة الطقس. انتبهت الى نفسها على صوت أندي.
ــ ماما …. أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ لِلمَنْزِل. لقد تجمدت أطرافي.
حَمَلَتْ طِفْلَها إِلى صَدْرِها واحْتَضَنَتْهُ ، نَعَمْ البَرْدُ قَارِس، هي أَيْضاً بَدَأَ البَرْدُ يَتَغَلْغَل في أَطْرَافِها ، وفَوْقَ ذَلِكَ لا تَعْرِفُ مَكانَ المحكة تَحْدِيداً. قالوا لها انها  على شارع ودورد. علَيْها أَنْ تَسأَلَ وتَسْتَدِلَ على العُنْوان الَّذِي مَعَها. بَدَأَ القَلقُ يُسَاوِرها علَيْهِ . لا تَدْرِي كيْفَ تَحْمِيِ طفلها  مِنْ البَرْد . ضَمَّتْهُ إِلى صَدْرِها وأَلْقَتْ علَيْهِ شَالَها لِمَزِيدٍ مِنْ الدِفْءِ. خَافَتْ علَيْهِ مِنْ البَرْد والتَجَمُّدِ والمَرَضِ وحتى المَوْت. ارْتَعدَتْ فَرَائصُها حِيْنَ مَرَّت بِخَاطِرِها فكرة المَوْت. سَأَلَتْ السَائق عَنِ العُنْوان فأَخْبَرَها في أَيّ مَحَطَةٍ علَيْها النزُول للوصول إِلى المحكمة. قَالَتْ في نَفْسِها: سأذهب إِلى نهاية العالم من أجلِ أن أتطلع إلى عيون وليد حين تكبل الشرطة يديه. أرسلت نظراتها إِلى الشوارع التي دبت الحركة فيها بعد أعياد الميلاد وراس السنة . كانت أصوات السيارات تختلط بأصوات البشر وكل في طريقه إلى عمله . كانت زينة الكرسماس لازالت تغطي الشوارع وواجهات المحلات التجارية.
-انظرْ ابني. انظر الى بابا نوئيل والغزلان يجرون العربة وهي تكاد تطير. ما أجملها .
لكن الصبي لم يعرها اهتماما فهو يصرخ ويبكي قائلا إِنه يريد أن يعود الى البيت. كانت الحافلة غاصة بالركاب. تساءلت وفاء في سرها عن الجهة التي يقصدها هؤلاءِ الركاب وما هي هموم كل واحد منهم وهل ان حياتهم جحيما مثل حياتها . وتذكرت بان البيوت أسرار وقالت في سرها بأن الصحيح هو ان البشر أسرار. فالذين يعرفون وليد معرفة عابرة يعتبرونه مثالا في النبل والشهامة وأصدقاءه في النادي يكنون له احتراما خاصا . غادر إثنان من الركاب الحافلة فجلست على المقعد الفارغ وهي تضم ابنها .  حانت منها التفاتة إلى مجلة ( الطفل ) التي تركها الراكبان على المقعد . تناولت  المجلة وأخذت تقرأ فيها . وبعد ان قلبت بضع صفحات منها انتبهت إلى قصة قصيرة ، أخذت تقرأها بلهفة . لكن ما أن أكملت قراءتها حتى طوت المجلة بغضب ووضعتها في جيبها وهي تردد : ما أسخف هذه القصة .
توقفت الحافلة وأشار اليها السائق مشيراً إلى المحكمة بيده .  أخذ قلبها يدق بسرعة . إِنه يوم الدينونة . فلتستجمع قواها .                                                        نزلت مِنْ الحافِلَةِ وأخذت تَمْشِي على الممر الذي يكسوه الثَلْجُ مما يجعله مُزْلِقاً . تَأْمَلُ أَنْ لا تَنْزَلِقَ مَعَ طِفْلِها وتَقَعُ أَرْضاً فتُصابُ هي أَوْ طِفْلَها بكسْرٍ. مَشَتْ الطَرِيق بِحَذَرٍ بَالِغ، كُلُّ خَطْوَة سَارَتْها بِحَذَرٍ، تَارَةً تَحْمِلُ طِفْلَها وتَارَةً تَمْسِكُ بِيَدِهِ. عاد ضعفها اليها فتَنَاثَرَتْ الدمُوعُ مِنْ عيْنِيها ، سَألَها طِفْلُها وهو يَلْمِسُ خَدَّها بِحُنُوٍّ وحُبٍّ :   
ــ ماما ، لِماذَا تَبْكين
مَسَحَتْ دمُوعَها وقَبَّلَتْ يَدَهُ الصَغِيرَة وضَحكَتْ لَهُ تُمازِحَهُ 
ــ أَبْكي مِنْ البَرْد
– أنا بردان مثلك ماما. لكني لا أبكي .
ضَمَّتْهُ إِلَيْها ودَخَلَتْ إلى المحكمة بسرعة لا تنظرُ أَحداً .
أَعلنت لمسؤولٍ في المحكمة عن اسمها وسبب قدومها . فوضع المسؤول  اسمها في الكمبيوتر وطلب منها دخول قاعة المحكمة في التاسعة صباحا أي بعد بضعة دقائق . أرسلت نظراتها في أرجاء المكان . كان وليد واقفا في الجهة الثانية يتمعن في ابنه أندي الذي لم يره لشهرين منذ أن اجبره الحاكم أن يترك المنزل . وما أن التقت نظراتهما حتى أقبل وليد نحو وفاء وابنهما . لكنه توقف في اللحظة الاخيرة إذْ تذكَّرَ أَنَّهُ مَحْظورٌ عليهِ التَحدُّث إِليها أَو الاقتراب منها ريثما تنتهي الدعوى.
 ــوفاء؟ ماذا تفعلين هنا ؟
كان ذلك صوت ابنة جارتها ، فتاة في العشرين من عمرها. وحين رأت الفتاة الصبي قالت:
– أعلم سبب مجيئك إلى المحكمة يا وفاء. سآخذ الصبي معي فأنا عائدة إلى بيت أُمي .
وباءت محاولات وفاء لمنعها من أخذ الصبي معها بالفشل. قبّلت وفاء ابنها . انتبه الصبى إلى والده فتطلع إِليه بفتور وغادر مع الجارة . حاول وليد اللحاق بابنه لكن الساعة كانت قد شارفت على التاسعة صباحا. أندي لم يعد بحاجة إلى والده ، همست وفاء لنفسها. سأربي ولديّ بنفسي فهو ليس بحاحة إلى أب. سارت بخطى وئيدة إلى قاعة المحكمة وسجلت اسمها لدى موظفة المحكمة. وسرعان ما أعلن موظف المحكمة عن قدوم القاضي فوقف الجميع احتراما . تطلعت وفاء إلى حيث كان وليد واقفا مع محاميه والقلق المرعب باد على وجهه الشاحب يرمق وفاء بنظرات نارية ولسان حاله يقول : كيف تجرأت على المجيء . كان يجب أن لا تحضري كي يتم إسقاط الدعوى . وما هي إلا دقائق حتى سمعت وفاء اسمها فتوجهت إلى كرسي الشهود .
كانت المحكمة شبه خالية . أَعلن موظف المحكمة عن اسم الدعوة واسم المدعي عليه وليد . وجدت وفاء نفسها واقفة أمام كرسي الشهود والقاضي يسألها إذا كانت ستقول الحقيقة وكل الحقيقة . أجابت بالايجاب . ابتدرها المدعي العام :
– أين كنتِ في مساء الأول من شهر نوفمبر السابق ؟
– في شقتنا في ديترويت مع زوجي وولدينا
– وماذا حدث ليستوجب اتصالك بالشرطة ؟
– تشاجرنا أنا وزوجي حول الأمور المالية كالعادة.
جعلت وفاء تستدرج إلى ذاكرتها أحداث ذلك المساء . كانت قد وضعت ابنها أندي في سريره . وفجأة لاحت منها التفاتة إلى قاعة المحكمة . كان الصبي جالسا مع بعض الحضور يستمع إليها .
– أندي؟  أهذا أنت ؟
توجهت أنظار وليد ومحاميه إلى وفاء وأخذا يهمسان بعضهما لبعض . تطلع المدعي العام عليها بحيرة وسألها :
– من هو أندي ؟
– ماذا تفعل هنا يا ابني ؟
– هل أنتِ على ما يرام يا سيدتي؟
كان أندي قد اختفى من القاعة وأدركت وفاء إنها كانت تعيش حلما .
– آسفة يا سيدي المدعي العام . نعم تشاجرت مع زوجي إلى حد العراك بالأيدي فارتعبتُ واتصلتُ بالشرطة.
-وهل ضربكِ زوجك المدعي عليه ؟
-في الحقيقة كنتُ قد استفزيته كثيرا فألقى تلفونه اليدوي على الأرض بغضب لكن من سوء حظي فإن التلفون ارتد في الهواء وأصاب وجهي .
– هل تقصدين إنه لم يتعمد ضربك؟
– طبعا لا.
شلت المفاجأة وليد . أما محاميه فقد بدت أمارات الرضى على وجهه . لقد أَسدت وفاء خدمة كبيرة له ولموكله . لقد أنقذته من سنوات سجنٍ طويلة  .
تداول القاضي مع المدعي العام وبعد بضعة دقائق أعلن القاضي إسقاط الدعوى ضد وليد.
غادرت وفاء قاعة المحكمة بسرعة . كانت غاضبة على نفسها بسبب ضعفها التي أبدته في المحكمة .  سارت وهي فريسة أفكارها لا تنظر حواليها كي تصل إلى موقف الحافلة بسرعة . كان عزاؤها الوحيد إنها ستكون مع ولديها خلال نصف ساعة. لحق بها وليد.
– وفاء. وفاء. لحظة فقط . أرجوك
التفت وفاء بسرعة ثم أكملت سيرها دون أن تكترث له . وفاء توقفي . أرجوك. وحين أهملته ضاق وليد ذرعا بها وأمسكها من كتفها .
– ماذا تريد ؟ اذهبْ من هنا.
– أريد أن أشكرك. لقد أنقذتيني .
– اتركني.
– لن أتركك منذ اليوم . أنا أحبك كثيرا. آسف على كل ما أقدمت عليه .
فقالت بتهكم: دعني أخمن في أية مرحلة نحن من دائرة العنف الشهرية . تريد أن تصالحني ، تقدم لي هدية رخيصة ثم تضطجع معي . أليس كذلك؟
– أعدك باني سأكون إنسانا آخر. أنا أموت فيك يا وفاء. أُحبكِ إلى أبعد الحدود. 
– لكني لا أحبك يا وليد ولا أريد أن أراك بعد اليوم .
– لماذا إذن كذبتِ على المحكمة ؟ أنتِ تعرفين اني القيت التلفون بوجهكِ .
– لم أكذب من أجلك.
-اعطيني فرصة أخيرة.
– لقد ذكرتني. ساعطيك أوراق الطلاق . يجب أن تجيب عليها وإلا ستهبني المحكمة حكما غيابيا .
هيا تفضل يا سيد وليد.
رمت حزمة من الأوراق عليه وأستقلَتْ مُسرعةً حافلة كانت قد توقفت للتو . حاول وليد اللحاق بها بعد أن أفاق من ذهوله. لكن الحافلة كانت قد ابتعدت .  فتح وليد الملف وأخذ يقرأُ طلب الطلاق منه . كانت هناك مجلة إلى جانب أوراق الطلاق . لا شك إن وفاء أعطت المجلة له عن طريق الخطأ . وأخذ يقلب صفحاتها بسرعة. وجد وليد قصة قصيرة في المجلة فأدرك أَن وفاء كانت قد قرأتها لانها طوت المجلة بحيث كانت القصة أول موضوع يراه.
لم يكن وليد يقرأ كثيرا لكن عنوان القصة استرعى انتباهه. كانت القصة من السبعينات تدور أحداثها في بوسطن وهي بعنوان (واجب بيتي) حول صبي في السابعة من عمره . كان المعلم قد طلب من تلاميذه إكمال الواجب البيتي الذي يتطلب تقطيع والصاق صور ومواد أخرى على اللوحة ، وعلى كل طالب أن يطلب المساعدة من والده في ذلك .  انتهت المدة التي أقرها المعلم ثم مددها لهم . أكمل جميع الطلاب الواجب البيتي إلاّ صبي اسمه اندرو . كان أندرو ياتي إلى المدرسة كل يوم دون إكمال الواجب البيتي . وحين يسأله المعلم عن الواجب البيتي يعطيه أندرو أعذارا. فوالده مشغول تارة ، ثم والده مسافر ، وتارة أخرى مريض . أدرك المعلم إن الصبي كان يكذّب عليه . وسأله إن كان لديه أب فأجاب الصبي ” نعم . لدي أب “. أعطاه  المعلم فرصة نهائية ووعده أندرو باكمال الواجب البيتي . وفي اليوم التالي سأل المعلم أندي عن الواجب البيتي . فأجابه بأن والده اضطر إلى السفر ثانية . احتدم المعلم غضبا وصفعه على وجهه.
– قل الحقيقة يا أندرو قبل أن أحبسك في المدرسة بعد انتهاء الدوام . لماذا لم تكمّل الواجب البيتي مع والدك؟
-لأن أبي في السجن يا أُستاذ.
تهاوى وليد على الأرض المتجمدة وأمسك بالمجلة وضمها إلى صدره . أدرك إن وفاء كذبت في المحكمة لانها لا تريد أن تحرم ولديها من أب . وأخذ يبكي ويبكي . كانت هذه المرة الأُولى التي يبكي فيها وليد منذ فترة طويلة وأخذ يردد : ما أسخفني ويا لدناءتي . وفاء امرأَة قل مثيلها . أنا فعلا لا أستحقها .

( 2 )

دَعْوَى كيْدِيَّة                                             
ــــــــــــــــــــــــــــــ                                         
ــ قِصَّة قَصِيرَة ــ                                           
بقلم : شذى توما مرقوس                                   
الأربعاء 23 / 3 / 2016 م .                                 

كيْداً بِها ……. أَقامَ علَيْها الشَكْوَى في مَخْفَرِ الشُرْطَة ، بَعثَتْ المَحْكمَةُ إِلَيْها تَسْتَدْعيها لِلتَحْقِيق في أَمْرِ الدَعْوَى ، حضُورها كانَ مُلْزِماً .                           
 نَهَضَتْ صبَاحاً وهيَّأَتْ طِفْلَها مَعَها ، وحِرْصاً مُضَاعفاً مِنْها دَثَّرَتْهُ بِمِعْطَفٍ سَميكٍ ، ففي اللَيْلَةِ الماضِيَة تَسَاقَطَ الثَلْجُ بِغزَارَة ، كُلّ الطُرُقَات مَكْسُّوَة بِطَبقَاتِ الثَلْج ومُزْلِقَة ، أَمْسَكتْ بِيَدِ طِفْلِها وخَرَجا إِلى الطَرِيق نَحْوَ مَحَطَّة انْتِظَارِ الحافِلَة .     
كانَتْ تَتَمنَّى لَوْ اسْتَطَاعتْ أَنْ تَعْفي طِفْلَها مِنْ هذَا المِشْوار ، لكِنْ عِنْدَ مِنْ تَسْتَأْمِنُ طِفْلَها وهي وَحيدَة هُنا في هذَا البَلَد لا أَهْلَ لَها ولا أَصْدِقاء ، كما لا يُمْكِنها أَنْ تَتَرُكهُ وَحيداً في المَنْزِل فهو صَغِير السِنِّ ، فَكَّرَتْ أَنَّ سيَّارَةَ أُجْرَة خاصَّة تُقِلُها إِلى المَخْفَر هو الحلّ المُنَاسِب ، لكِنَّها لا تَمْلِكُ المَالَ الكافِي لِتَدْفَعَ التَكالِيف فالشَهْرُ في آخِرِ أَيَّامِهِ ولَمْ يَتَبقَّ مِنْ مالِها نُتْفَة ، ولَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُعِيرها المال ، ما مِنْ سَبِيلٍ أَمَامَها غَيْر أَنْ تَنْتَظِرَ الحافِلَة وتَأْمَل أَنْ لا تَنْتَظِرَ طَوِيلاً .                         
وقفَا يَنْتَظِران ….. مَرَّتْ بِضْعُ دقَائق ثُمَّ بِضْعٌ أُخْرَى وأُخْرَى ، لكِنْ حَتَّى مَوْعِد مَجِيءِ الحافِلَة ستَمُرَّ عشْرونَ دقِيقَة ، والطِفْلُ في وقُوفِهِ يَصِيح :                   
ــ ماما …. أَنا أَتَجمَّد .                                                                       
اغْرُورِقَتْ عَيْناها بالدمُوع وقَالَتْ في سِرِّها :                                           
( هذَا ما أَرادَهُ والِدُكَ الَّذِي لَمْ يُفكِّرْ فيكَ لَحْظَة ، رَأَى فَقَطْ الانْتِقَام وإِظْهارَ القُدْرَةِ والسُلْطَة لأَذيَتي علَّهُ يَسْتَحْصِلُ مِنِّي المالَ بِتَغْرِيمي ، واخْتَرَعَ أَكاذِيبَ في دَعْواهُ ضِدِّي دُوْنَ وَخْزٍ مِنْ ضَمِير ،  إِنْ كانَ لَهُ ضَمِير حيّ  ، هذَا الغَبيّ ، لَوْ يَراكَ وأَنْتَ تَتَأَلَّمُ بَرْداً ، أَبٌ أَحْمَق ) .                                                                     
احْتَضَنَتْ طِفْلَها وقَبَّلَتْهُ بِحنَانٍ وهي تَقُول :                                               
ـ بِضْعُ دقَائق أُخْرَى وستَأْتي الحافِلَةُ  يَاصَغِيرِي الحبِيب .                             
أَخْرَجَتْ مِنْ حقِيبَةِ يَدِها قِطْعة حَلْوَى يُحِبُّها وأَعْطَتْها لَهُ :                             
ــ خُذْ هذِهِ ، ستَمْنَحكَ الدِفْء يَا حبِيبي .                                                   
شَغَلَتْ قِطْعةُ الحَلْوَى الصَغِيرَ عَنْ شَكْواه مِنْ البَرْد ، لكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَمِرْ إِلاَّ دقَائق مَعْدُودَة ، فعادَ يَبْكي ويَتَوسَّل :                                                             
ــ ماما …. أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ لِلمَنْزِل .                                                         
ـــ لا يُمْكِننا يَاولَدي ، يَجِبُ أَنْ نَذْهَبَ لِلمَخْفَر ، بَعْد دقَائق ستَأْتي الحافِلَة .           
حَمَلَتْ طِفْلَها إِلى صَدْرِها واحْتَضَنَتْهُ ، نَعَمْ البَرْدُ قَارِس ، هي أَيْضاً بَدَأَ البَرْدُ يَتَغَلْغَل في أَطْرَافِها ، وفَوْقَ ذَلِكَ هي لا تَعْرِفُ المَكانَ تَحْدِيداً ، علَيْها أَنْ تَسأَلَ وتَسْتَدِلَ على العُنْوان الَّذِي مَعَها ……                                                     
بَعْدَ مُدَّة جاءَتْ الحافِلَة والصَبِي يَرْتَعِشُ بَرْداً وهي أَيْضاً ، سَأَلَتْ السَائق عَنِ العُنْوان ، أَخْبَرَها في أَيّ مَحَطَةٍ علَيْها النزُول لأَخْذِ الخَطِّ التَالِي القَاصِد إِلى حَيْثُ تُرِيد ، قَالَتْ في نَفْسِها : ( لا أُرِيد ، لكِنَّ مُرْغَمَة ) .                                     
فَكَّرَتْ انْتِظَارٌ آخَر أَمَامَها وطِفْلَها ، بَدَأَ القَلقُ يُسَاوِرها علَيْهِ لا تَدْرِي كيْفَ تَحْمِيهِ مِنْ البَرْد ، وحِيْنَ نَزَلا في المَحَطَةِ الَّتِي أَشَارَ بِها إِلَيْها السَائق حَمَلَتْ طِفْلَها وضَمَّتْهُ إِلى صَدْرِها وأَلْقَتْ علَيْهِ شَالَها لِمَزِيدٍ مِنْ الدِفْءِ ، خَافَتْ علَيْهِ مِنْ البَرْد والتَجَمُّدِ والمَرَضِ والمَوْت … ارْتَعدَتْ فَرَائصُها حِيْنَ مَرَّ بِخَاطِرِها المَوْت ، وصَارَتْ تَنْفُضُهُ عَنْ أَفْكارِها بِشِدَّة  ….. ..                                               
لَمْ تَعُدْ تَشْعُرُ بِأَطْرَافِها …. أُذُنَاها احْتَقَنتَا ، أَنْفَها إِحمَّرَ ، شَفتَاها بَدَأتَا تَتَيبسان  ، صَارَتْ تُحَرِّكُ أَقْدَامَها طَلبَاً لِلدِفْءِ في مَكانِ وُقُوفِها ، تَرْفَعُ الأُولَى ثُمَّ الثَانِيَة وهكذَا …. مَرَّتْ رُبُع سَاعة وكأَنَّها عام ، أَخِيراً جاءَتْ الحافِلَة فصَعدَتْ إِلَيْها مَعَ طِفْلِها وسَألَتْ ثَانِيَةً السَائق عَنِ المَحَطَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَنْزِلَ فيها فأَشَارَ إِلَيْها بِذَلِك ، لكِنَّ المشْوار لَمْ يَنْتهِ ، فبَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنْ الحافِلَةِ علَيْها أَنْ تَمْشِي سَيْراً طَرِيقَاً جانبِياً ، والثَلْجُ يَكْسُو الطُرُقات وهي مُزْلِقَة ……… تَأْمَلُ أَنْ لا تَنْزَلِقَ مَعَ طِفْلِها وتَقَعُ أَرْضاً فتُصابُ هي أَوْ طِفْلَها أَوْ كِلاهُما مَعاً بِجُرْحٍ أَوْ كسْرٍ …..                 
مَشَتْ الطَرِيق بِحَذَرٍ بَالِغ ، كُلُّ خَطْوَة سَارَتْها بِحَذَرٍ ، تَارَةً تَحْمِلُ طِفْلَها على صَدْرِها ، وتَارَةً تَمْسِكُ بِيَدِهِ تُشَجِعهُ على خَطْوِ بِضْع خُطُوات ، شَعَرَتْ إِنَّ العالَمَ كُلَّهُ ضِدّها …. وتَنَاثَرَتْ الدمُوعُ مِنْ عيْنِيها ، سَألَها طِفْلُها وهو يَلْمِسُ خَدَّها بِحُنُوٍّ وحُبٍّ :                                                                                           
ــ ماما ، لِماذَا تَبْكين …                                                                     
مَسَحَتْ دمُوعَها وقَبَّلَتْ يَدَهُ الصَغِيرَة وضَحكَتْ لَهُ تُمازِحَهُ  :                           
ــ أَبْكي مِنْ البَرْد .                                                                             
فصَدَّقَ الطِفْلُ أُمَّهُ وقالَ مُواسِياً :                                                           
ــ لا تَبْكي يا أُمّي ….. المَبْنَى سيكُونُ دافِئاً .                                               
ضَمَّتْهُ إِلَيْها ودَخَلَتْ مَخْفَرَ الشُرْطَة وهي تَرْتَجِفُ وطِفْلها مِنْ البَرْد ، وهَمَسَتْ في أُذُنِهِ :                                                                                           
ــ لَقَدْ وَصَلْنا يَا حبِيبي …….                                                                 
وأَكْمَلَتْ في سِرِّها :                                                                           
(  لكِنَّ والِدكَ لَنْ يَصِلَ أَبَداً  …….. ) .                                                     

 الأحد 26 / 6 / 2016 م ــ الخميس 7 / 7 / 2016 م

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, ثقافة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.