ستعتذرون لهم أم ستبيدونهم..!؟

بقلم د.ابراهيم افرام
ستعتذرون لهم أم ستبيدونهم …!؟

22 / 03 / 2011
http://nala4u.com

الاعتذار فضيلة أخلاقية سامية وقيمة عليا من قيم المجتمعات المتحضرة،فهو بادرة لتصحيح الأخطاء التي ارتكبت بحق الآخرين، فمن المفروض أن تسود ثقافة الاعتذار والتعويض عن الإساءة كافة المجتمعات الإنسانية بما فيها العربية والإسلامية.
أن الذين يزعمون بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة ، ولا يراجعون أنفسهم ولا يعترفون بأخطائهم تجاه الآخرين ، فهم بذلك نتاج ثقافة التعصب الديني والأيدلوجي، والتي تنظر للآخرين من منظار الفوقية و الاحتقار، فالذين لا يعتذرون هم أصحاب عقول إقصائية وكما هو معروف عن الإقصائية بحد ذاتها هي نوع من الفكر والممارسة التي لا ترى إلا نفسها ، ومن منطلق هي الصائبة دائماً في تصوراتها ولا تعيش إلا بالعقل ألإقصائي للآخرين والذي في رأيي هو السبب في الكثير من الكوارث التي تحل بالبشر عبر التاريخ ، فالعقل الإقصائي هو الذي ينصب صاحبه نفسه قاضياً يحكم على معتقدات الآخرين يحاول ٌإلغائها وتهميشها على أقل تقدير، ومن لا يعترف بأخطائه ولا يتعلم منها ولا يطور نفسه ولا حياته، فالكثير من الشعوب والدول والأحزاب والرموز الدينية والسياسية والثقافية تسيء إلى بعضها البعض، ثم تكابر وتناور وتراوغ ولا تعترف ولا تعتذر، في حين هناك الكثير من الشعوب والدول اعتذرت عن تجاوزات حدثت عبر تاريخيها.
الاعتذار الرسمي سياق مطروح في السياسة الخارجية للدول المستقلة ، إن الدول إذ تفعل ذلك إنما تفعله أما مرغمة على أمرها بعد خسارتها للحروب وقبولها لشروط الاستسلام المفروضة عليها، في حين أن الاعتذار الرسمي الذي يقدم للشعوب فأمر نادر، والدول التي تقدم الاعتذار الرسمي إنما تفعل ذلك تكفيرا لاحتلالها البغيض للدول الأخرى وما تكون قد مارسنه من ممارسات شنيعة بحق الشعوب المستعمرة ، فمثلاً اعتذرت اليابان لشعوب جنوب شرق آسيا والصين عن الفترة الاستعمارية وأمريكا اعتذرت لأفريقيا عن تجارة العبيد، أما الأنظمة الشمولية المتعاقبة في العديد من دول العالم الثالث والتي ألحقت الهزائم والكوارث بأوطانها لم تعتذر لشعوبها وهذا ما نعيشه في هذه الأيام بالذات في العديد من الدول العربية ، فآلاف المعتقلين السياسيين في السجون ماتوا من التعذيب وذهبوا من غير أي اعتذار أو تعويض.
الشعوب الأصيلة المعنية بالاعتذار في هذا المقال والمعروف عنها تلك الفئة من السكان التي لها خصائص مميزة ، فالأرض التي تعيش عليها والموارد الطبيعية التي تعتمد عليها تربطها ارتباطاً وثيقاً بهويتها وثقافتها وتاريخها ، فكل محاولة ومن أيةٍ جهة كانت تهدف إلى تدمير ثقافتها في وطنها لا تعتبر تجني على ذلك الشعب بعينه فحسب بل تجني على القيم الإنسانية ، وعلى النقيض من ذلك تماماً يمكن الاستفادة من ثقافة الشعوب الأصيلة (( كما يحلو للكثيرين تسميتها بالأقلية )) أليست ثقافتها ثقافة الجدود …!؟ أليس كل جديد ينتمي إلى القديم…!؟ فالحكومات الشمولية التي تدعي وبحجة المحافظة على سيادتها ووحدتها وتضطهد شعوبها الأصيلة بحرمانها من أراضيها أو فرض قيود عليها تمنعها من الوصول إلى مواردها الطبيعية لا يؤدي ذلك إلى إفقارها اقتصاديا فحسب بل وإلى فقدان هويتها وتهديد استمرار ثقافتها مما يرافقه من اضطهاد دموي يأخذ الطابع العنصري أحياناَ والدديني أحياناً ويشمل القتل والخطف والاغتصاب والسرقة والحرق والتدمير والاستيلاء على الأرض.
لقد أنصفت المنظمة الدولية وبعد انتظار طويل الشعوب الأصيلة، ففي 12 أيلول 2007 أجازة الجمعية العامة للأمم المتحدة أهم إعلان ** وبكل آسف غير ملزم ** في مجال حقوق الإنسان ألا وهو « حقوق الشعوب الأصلية» حيث أيدت الإعلان 143 دولة (من أصل 192 دولة) وعارضته 4 دول: أميركا، وكندا، واستراليا، ونيوزيلندا وهي الدول التي يعيش فيها الملايين من أبناء الشعوب الأصلية، وامتنعت عن التصويت 9 دول حيث توقف الإعلان على أمرين جوهريين بالنسبة للشعوب الأصيلة وهما:
أولاً : حق تقرير المصير والسيطرة على الموارد المحلية ثانياً ، حيث يصف قاموس «وبستر» الشخص «الأصلي» بأنه هو الذي «ولد وعاش وتوالد، وصار جزءا من مكان معين» ووصف مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف «الشعب الأصلي» بأنه الذي«يعاني من ظلم لأنه يختلف عن الشعب الذي يسيطر على الحكومة ولأنه ظل في نفس المكان قبل إن يسيطر على الحكومة الشعب الآخر» و بدوره دافع بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة عن إعلان حقوق «الشعوب الأصلية» فقال:
«هذا يوم نصر لجميع الشعوب الأصيلة وغير الأصيلة هذا يوم تاريخي …» وبعد أن أجازت المنظمة الدولية «الإعلان العالي لحقوق الشعوب الأصيلة» لم تستطع فيكي كوربس رئيسة «بيرماننت فورم» (المنبر الدائم) وهي من قادة حركة إنصاف «الشعوب الأصلية» الكلام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فالعبرة خنقتها وسالت الدموع من عينيها لكنها سيطرت على نفسها وقالت:
«ليس بكائي هنا هو المهم، أهم منه بكاء شعوبنا لمئات السنين. ليس إعلان اليوم هو المهم، لأن أهم منه تنفيذه» .
أن تقديم الاعتذار للشعوب الأصيلة ومن القيادة السياسية العليا لبعض الدول أنما يدل على تطور الوعي السياسي عندها وتفعل ذلك عن طيب خاطر و لا ترى فيها حراجة في تقديم الاعتذار، فالحكومة الاسترالية ومن كانبيرا وعلى لسان رئيس وزرائها كيفن راد تقدم اعتذارا تاريخيا لسكانها الأصليين (الأبورجنيز) وفي خطاب تاريخي أمام البرلمان بتاريخ 14 شباط 2008 تكفيرا عن الإساءات التي ارتكبتها الحكومات الأسترالية التي تعاقبت على الحكم بحق سكان البلاد الأصليين في محاولة لرأب الصد ع الكبير بين الاستراليين البيض ومواطنيهم السود من سكان البلاد الأصليين ونقلت حينها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن رئيس الحكومة كيفن راد قوله في العاصمة كانبيرا إن حكومته تعتذر للقوانين والسياسات التي تسببت بـ “الاسى العميق والمعاناة والخسارة” لسكان أستراليا الاصليين والتي تسببت في معاناة شديدة لمواطنينا الاستراليين” وخص ستفين راد بالذكرالاجيال الضائعة من أطفال السكان الاصليين الذين انتزعوا من أحضان أهاليهم عنوة في سياق سياسة اندماج اتبعتها الحكومات الاسترالية المتعاقبة منذ القرن التاسع عشر وحتى أواخر ستينيات القرن العشرين .
أما في كندا فكلمة “آسف” وبخمس لغات رددها رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر بدوره في مستهل خطابه التاريخي اعتذر فيها رسميا للسكان الأصليين في جلسة رسمية للبرلمان الكندي عقدت خصيصا لذلك بتاريخ 11/06/ 2008 من المعروف في كندا و بعد مرور سنوات قليلة على إعلان الاتحاد الكندي في عام 1867 اقتضت سياسة الحكومة الفدرالية إنشاء مدارس داخلية خاصة بالسكان الأصليين، يزج فيها بالتلاميذ بعد أخذهم عنوة من ذويهم في أبكر سن ممكنة، ويبقون فيها لعشرات السنين منقطعين عن ثقافتهم الأصلية وتراثهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الروحية، بغرض دمجهم في المجتمع الكندي الجديد، واستيعاب عاداته وثقافته الغربية البعيدة عنهم وقد تم خلال أكثر من مائة عام إجبار نحو 150 إلف طفل على الانفصال عن عائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية وإخضاعهم لعملية غسل دماغ منظم أغلق الجزء الأكبر من هذه المدارس في سبعينيات القرن الماضي ما تبقى منها في العام 1996، وما زال 80 إلفا من تلاميذها على قيد الحياة، يؤكدون إنهم تعرضوا فيها لسوء المعاملة والإهمال وكل أنواع التجاوزات من الجوع والحرمان وحتى الإيذاء البدني والجنسي والعاطفي والعنصري وعبرت الحكومة ببيان خاص بالمصالحة عن أسفها للذين عانوا من تلك التجاوزات ، حيث تأسفت الحكومة الكندية والكنائس المعنية للماسي وتجاوزات المدارس الداخلية وقدم زعماء الأحزاب الرئيسية اعتذاراتهم أيضا لتكون نقطة تحول في العلاقة بين السكان الأصليين وغيرهم من الكنديين، ليتمكنوا من المضي قدما معا وبمختلف ثقافاتهم في بناء علاقات إنسانية يجمعهم فيها حب المكان الذي يعيشون فيه.
ما يهمنا هنا كشعب أصيل لبلاد ما بين النهرين ما يثبت تجذرنا بأرضنا هذه الحقيقة الدامغة يتم التأكيد عليها نظرياً وعلى المستويين الشعبي والرسمي من شركائنا على الأرض فمن منا لا يذكر ما صرح به من أنتقل من هذه الدنيا من رؤساء دول أمثال( حافظ الأسد وسليمان دميرل وتوركت أوزال …) ونسمعها وفي العديد من المناسبات من السياسيين الحاليين من الأتراك والسوريين والعراقيين والكرد والفرس وطبعاً عند الضرورة ولذرالرماد في عيون شعبنا وتسويق الكلام المعسول للعالم المتمدن جازمين ونظرياً بأصالة الآشوريون والسريان والكلدان واليزيديين والصائبة المندائيين في العراق وغيره من دول الجوار، بحيث أصبح من الواضح للقاصي والداني و بين الحين والحين ما تورده وسائل الأعلام الرسمية العراقية والتركية والسورية والإيرانية عن الاكتشافات الأثرية للبعثات التنقية العائدة لشعبنا الأصيل ليؤكد مرة تلو المرة تجذرنا بأرضنا ، أما وفي حال العثور وبالصدفة على ما يثبت إبادتنا عبر التاريخ من مقابر جماعية لشهدائنا فذلك ما لا يروق للقوى الحاكمة اليوم على الأرض فيتم إخفائه ومسحه بلمحة بصر لتستمرأبادتنا عملياً سياسياً وثقافياً بقوانينهم و بدساتيرهم العنصرية الأقصائية و جسدياً (من قتل، تهديد ،تهجير، استيلاء، اعتقال، محاكمة ، ابتزاز، قطع أرزاق …) ولنا من الشواهد على مثل هذه التصرفات الشوفنيية اللا إنسانية اليومية بما فيه الكفاية .
أن ما يصبو له شعبنا وكل القوى الديمقراطية العلمانية الخيرة في سوريا والعراق بما فيه * الكيان الكردي المصطنع الذي لا يكف عن محاولاته اليائسة لتكريد ما هو فوق وتحت الأرض * وتركيا وإيران هو تبديل الأنظمة الشمولية الحالية إلى أنظمة ديمقراطية علمانية ، دول تحترم وتقردستورياً وتطبق عملياً تعدد الثقافات واحترام كرامة المواطنين دون تميز لأن القلق وعدم الاستقرار والتوتر والتضييق وخنق كل فرصة للتعبير عن النوع الثقافي وسحقها بالقوة ومصادرة الحقوق القومية المشروعة لإثبات الذات أنها هي الأسباب الأساسية والحقيقية للنزيف الحاد للهجرة التي يعاني منها شعبنا الأصيل ، هذه الخطوات باتت ضرورية جداً وعاجلة ويجب الأقرار بها ودون تأخير وعلى العالم المتمدن تقع مهمة إلزامية حماية شعوبا أصيلة تباد في أوطانها و لا تريد إن تترك أرضها.
الأمل كبير في أن تستفيد العديد من الدول من تجربة أستراليا وكندا وتقدم اعتذارات مشابهة وليس ممارسة أساليب تكون محصلتها إبادات لكثير شعوبها الأصيلة ((الأقليات الدينية والاثنية)) والتي ظلمت عبر التاريخ بكل ما ينطوي عليه الظلم من شرور وآثام وفي مقدمتهم الشعب ألأرمني الذي تعرض لمذابح جماعية في تركيا راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف من الأرمن ومئات الالآف من أتباع كنائس عديدة كالسريان والكلدان والأشوريين وديانات أخرى كاليزيديين الذين تعرضوا لـ 72 فرمان (مجزرة إبادة ) والصابئة المندائيين وللأسف يبدو ضاق صبر جنوب العراق بوجودهم وكما الحال بأقباط مصر … وغيرهم ، فلو سادة ثقافة الاعتذار في حياة الدول العربية والإسلامية ( وقد تكون المملكة المغربية في مقدمة هذه الدول حيث وعد الملك محمد السادس مؤخراً وخوفاً من أن تطال نظامه ثورة مشابه لما طال وسيطال … أقرانه من الملوك والرؤساء بتغيرات دستورية عديدة في المغرب تأخذ بعين الاعتبار تثبيت الثقافية الأمازيغية ) لأمكن وضع حد لكثير من القضايا العالقة والحد من مرارات كثيرة في النفوس ، ما أجمل أن نعتذر لبعضنا وما أجمل أن تسود ثقافة الاعتذار حياتنا ومجتمعاتنا، هي كلمات بسيطة لكن لها أثر سحري يزيل العديد من المرارات و تترسخ بالممارسة وتصبح عرفاً عاماً يحكم العلاقات الاجتماعية .

أبراهيم أفرام
22/03/2011

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الارشيف, المقالات واللقاءات. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.